بيروت- خاص بـ”الشفّاف”
تتكاثر المعلومات وتتقاطع حول مسألة الانتشار العسكري السوري على الحدود اللبنانية، خصوصا بعد ورود أخبار أمس تفيد عن توسيع هذا الانتشار من الحدود الشمالية قبالة منطقة عكار، ليشمل الحدود مع البقاع الشمالي، عند معبر القصر، لجهة منطقة القاع. وتتنوع بالتالي التفسيرات والقراءات حول خلفيات هذا الانتشار وأسبابه الحقيقة، وأهدافه الفعلية: وقائية، أم داخلية لها علاقة بالوضع في داخل سوريا، أم بهدف تحقيق حلم النظام السوري في العودة الى لبنان؟
أفاد شهود عيان قادمين من البقاع ان الاجراءات العسكرية شملت استقدام آليات عسكرية، وحفر خنادق، ونصب خيم للجنود، واقامة حواجز على طول خط الانتشار ورفع سواتر ترابية لمنع التسلل. ونقلت صحيفة “الحياة” عن مصادر أمنية لبنانية رفيعة أن الانتشار يشمل “كل المناطق المحاذية للحدود مع لبنان من أجل مكافحة التهريب”.
وأثار هذا الانتشار الكثيف والواسع حفيظة “قوى 14 آذار” التي حذرت من أن يكون هذا الانتشار مقدمة لعودة سوريا مجددا الى لبنان – رغم التطمينات التي حصلت عليها من فرنسا – تحت ذريعة حماية أمنها من الارهاب و”خطر التطرف السلفي الآتي من شمال لبنان”. وعزز هذه المخاوف، البيان الذي صدر أمس عن الخارجية الأميركية، والذي تضمن ما يشبه التحذير لدمشق من مغبة حشد قواتها على الحدود مع شمال لبنان. وقال المتحدث باسم الخارجية “روبرت وود” أن الولايات المتحدة ودول أخرى أوضحت لسوريا ان “أي تدخل من جانب دمشق غير مقبول، وأن الهجمات التي وقعت في طرابلس وفي دمشق لا ينبغي أن تشكل ذريعة للتدخل العسكري، ولا يمكن استغلالها للتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية”. وأضاف وود: “ان الحكومة السورية تدرك جيدا وجهة نظرنا في ما يتعلق بأي نوع من النشاط العسكري في منطقة الحدود…”.
كما طمأن نائب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، “ديفيد هيل”، الموجود حاليا في لبنان، “قوى 14 آذار”، حول موقف بلاده الداعم لـ”ثورة الأرز” وثوابتها، وأن مقياس أي تقدم في العلاقة مع دمشق مرتبط بمدى احترام سوريا لسيادة واستقلال لبنان. وقبل ساعات أكد هيل من قصر بعبدا، بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال سليمان، على موقف الولايات المتحدة الثابت في دعم استقلال لبنان وسيادته، وحرصه على تطبيق القرارا ت الدولية، وتحديدا القرارين 1559 و1701، ورفضها أي تدخل في شؤون لبنان…
الا ان توسيع الانتشار، والكلام اللافت الذي صدر عن مصادر أمنية لبنانية رفيعة، والذي يؤكد ان هذا “الانتشار يشمل كل المناطق المحاذية للحدود مع لبنان لمكافحة التهريب”، يدفع الى قراءة متأنية تأخذ بعين الاعتبار علاقات سوريا الاقليمية والدولية وسعيها للخروج من عزلتها، مستغلة الانفتاح الفرنسي عليها.
بدأ الانتشار العسكري السوري على الحدود الشمالية مع لبنان، بشكل مفاجىء وبدون سابق انذار، ليل 21 و22 ايلول الماضي، أي قبل خمسة أيام من التفجير الذي حصل في دمشق (أودى بحياة سبعة عشرا مواطنا سوريا بينهم ضابط كبير، وآخر برتبة لواء “اختفى” بعد وقوع الانفجار، وكان تم التحقيق معه في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري)، وسبعة ايام من الأنفجار الذي حصد خمسة عسكريين في مدينة طرابلس اللبنانية. عندها تكلمت السلطات السورية عن “خطر السلفية على سوريا من شمال لبنان”، واتهمت “انتحاري” ينتمي الى “تنظيم تكفيري” دخل من “احدى البلدان المجاورة للحدود السورية”. الا انها لم تأت على ذكر الحشود العسكرية على الحدود.
وقبل يومين، وخلال اتصال هاتفي مع الرئيس اللبناني، طمأن الرئيس السوري بشار الأسد الى أن “الهدف من الحشود العسكرية هو تنفيذ القرار 1701”.
ماذا يقول القرار 1701؟ ينص البند 15، في الفقرة (أ) منه، على الآتي: «أن تتخذ جميع الدول (باستثناء لبنان وسوريا المعنيان مباشرة بالقرار) ما يلزم من تدابير لمنع قيام مواطنيها، أو انطلاقاً من اراضيها او باستخدام السفن والطائرات التي ترفع علمها، ببيع أو تزويد أي كيان أو فرد في لبنان بأسلحة وما يتصل بها من عتاد من كل الأنواع، بما في ذلك الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية والمعدات شبه العسكرية وقطع الغيار لما سبق ذكره، سواء كان منشؤها من اراضيها أو من غيرها». كما تنص الفقرة (ب) على «منع تزويد أي كيان أو فرد في لبنان بأي تدريب أو مساعدة أو تصنيع أو صيانة أو استخدام المواد المدرجة في الفقرة (أ).
أي أن لهذا القرار معنى محدداً يتعلق بضبط الحدود والمعابر لمنع وصول السلاح الى غير الحكومة اللبنانية، أي الى “حزب الله”. فهل هذا هو ما يريده أو قصده الأسد؟
يبدو بحسب معلومات دبلوماسية، أن هناك ضغوطا، تمارس في الكواليس، على سوريا، لدفعها الى تنفيذ القرار 1701، استكمالا لما تم الاتفاق عليه بين ساركوزي والأسد خلال زيارة الأخير الى باريس، في تموز الماضي، كشرط للانفتاح الفرنسي، وكذلك في القمة الرباعية (سوريا، فرنسا، قطر وتركيا) التي انعقدت في دمشق، في 4 ايلول الماضي. وذلك تمهيدا لاقامة علاقات دبلوماسية وتطبيع العلاقات بين لبنان وسوريا قبل نهاية هذا العام، كما وعد وأكد الأسد خلال القمة بينه وبين سليمان، في منتصف آب الماضي. وواضح ان باريس لا تتحرك بمعزل عن واشنطن، أو من دون التنسيق معها. وربما لهذه الأسباب لم تثر الحشود العسكرية ردود فعل قوية مستنكرة، بغض النظر عن التصريحات الرسمية العلنية.
وفي اشارة لها مدلولاتها، خبر تناقلته بعض الصحف أمس، عن أن واشنطن بدأت ترى “علامات مشجعة تدفع باتجاه مراجعة سياسة العزل” التي انتهجتها تجاه سوريا. ويصدر هذا الموقف بعد اللقاء الذي جمع وزبر الخارجية السورية وليد المعلم ووزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، على هامش اجتماعات الجمعية السنوية العامة للامم المتحدة في نيويورك، والذي يشير على الأرجح الى أن المعلم أبلغ الادارة الأميركية بأمور، ووضعها في جو الحركة العسكرية السورية على الحدود مع لبنان. وقد تم اللقاء بين المعلم ورايس، بحسب هذه المصادر، على ثلاثة مراحل، بعكس ما يشيع حلفاء سوريا في لبنان من أن رايس “طاردت” المعلم في أروقة الأمم المتحدة لتجتمع به. فقد أجرى المعلم أولا اتصالا برايس، ثم عقد لقاء تمهيديا مع مساعدها ديفيد ولش، تبعه لقاء مباشر معها.
من ناحية ثانية، لا بد من ملاحظة ان اعلان الأسد عن أن الحشود العسكرية تتم تحت عنوان تنفيذ القرار 1701، يتزامن مع ما جاء على لسان وزبر الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، في ختام محادثاته في اسرائيل، والذي سعى خلاله الى “تحريض” اسرائيل على ايران. ويمكن بالتالي الاستنتاج أن الموقف الأميركي (الذي يرى “علامات مشجعة لدى سوريا”) ليس منفصلا عن الضغوط التي تمارس على ايران، واستطرادا على “حزب الله”، لإفهامهما ان الأمور تتقدم مع سوريا…
في خلاصة الأمر، هل هذه نوايا النظام السوري من الحشود العسكرية الآخذة بالتوسع على طول الحدود مع لبنان؟ وهل انه يتجه فعلا الى تنفيذ القرار 1701؟ يبدو انها كذلك، رغم المؤشرات التي تقود أحيانا الى عكس ذلك، ورغم “البهورات” السياسية والاعلامية. الا ان ذلك، في الوقت نفسه، لا ينفي وجود خطر حقيقي ناتج عن حالات أصولية أو ارهابية، في الشمال أو في غيره، رعاها النظام السوري ومخابراته، والتي انطلقت من أراضيه، وربما أصبح اليوم عاجزا عن ضبطها أو التأثير عليها. وهو أمر باتت تعيه السلطات اللبنانية وأجهزتها، التي ما زال بعضها مخترقا ويحتاج الى تطهير واعادة تنظيم وتأهيل.
عدا عن أن السعي (وليس التظاهر) في تطبيق القرار 1701 يمكّن النظام السوري من مواجهة الضغوط والمساهمة بفك عزلته من جهة، وضبط الأمن على حدوده من عمليات التسلل والتهريب من جهة أخرى. فهل ينجح في لعب هاتين الورقتين؟
وربما من المفيد التذكير ان الأسد لم يوافق في السابق على القرار 1701، كما انه لم بوافق على القرار 1559، معتبرا انه غير معني به، ثم انسحب من لبنان نتفيذا له كما أعلن يومها.
s.kiwan@hotmail.com
* بيروت