تتجلى أهمية التنمية في ضوء عصر ثورة المعلومات ومجتمع المعرفة حسب تعريف ” أمارتيا صن”*: (بأن أي مجتمع يجب أن ينبني تأسيسياً على بنى تحتية لها شروطها العصرية : مؤسسات / سياسات / تشريعات / تنظيمات مدنية / شبكات اتصال / بحوث وتطوير / تمكين بشري للرجل والمرأة /…. الخ وتجليات هذا كله يتمثل في العلاقات الاجتماعية بين نخبة وعامة، حاكم ومحكوم، ذكر وأنثى، مؤسسات علمية وتعليمية ورعاية صحية وفعالية سياسية).
وبناءً على ذلك، فالتنمية والتطوير في سوريا عملية متشابكة، وقد تكون معقدة، بالنظر إلى مجموعة من الثنائيات الإجبارية والتي تتعلق بما يلي:
1- إدارة الأسواق والمؤسسات الحكومية : إن النظر ملياً على ماهية فوضى الأسواق في هذه الأيام، والتي نراها تترافق مع ارتفاع أسعار المحروقات لأكثر من 300% عشية عيد العمال العالمي، حيث وبسببها جعلت كل أفراد الشعب في كابوس طويل من الذعر والخوف، وكأن على رؤوسهم الطير، يترقبون المزيد من الضربات الموجعة، وبمقابل ذلك أقبلت (مكرمات السلطة البخسة) التي لا تسد الرمق الباقي في النفوس المنهكة، فهذه الفوضى (السوقية) بعيدة كل البعد عن قدرة مؤسسات السلطة إن كان من ناحية التوجيه، أو من ناحية التحكم بوقف جنون ارتفاع الأسعار في كل شيء، حيث أصبحت على أرض الواقع تلك المؤسسات عاجزة تماماً، عن تفسير ما يجري، ومتذرعة بأسباب واهية جعلت المواطن في حيرة من أمره، يتساءل عن جدواها؟؟، وفعاليتها تجاه ما يحدث، وتبرير ذلك من قبلها : مرة بأن الغلاء عالمي، وأخرى بان الأسواق أصبحت مفتوحة على مصراعيها، وغدا قانون العرض والطلب هو سيد الموقف، وشعار(اقتصاد السوق الاجتماعي) الذي طرحته السلطة، أضحى عنواناً فارغاً من مضمونه، ضحاياه للأسف هم الشرائح الاجتماعية المهشمة أصلاً بكل المقاييس. وهو الذي تذرع بالدفاع عن مصالحهم؟
2- الفساد، والإصلاح التنموي : حيث نرى الفساد يتجذر بقوة في المجتمع، من خلال استهتار السلطة بمصلحة مواطنيها ويتوضح ذلك عملياً، بترك الحبل على الغارب تجاه الفاسدين والمفسدين من رجالها، ومن الجشعين أيضاً، ومن ضرورات التنمية الصحيحة هو معالجة موضوع الفساد وبشكل جدي وليس من خلال الأقوال فقط، وقد نتفق جميعاً على أن للفساد كلفة اجتماعية واقتصادية باهظة، ويعمل بقوة على تأخير عملية التنمية الاقتصادية، ويحول دون تحقيق الازدهار والتنمية المطلوبة، ولذلك فإن مكافحته تصبح مسؤولية جماعية ووطنية, ويجب أن تكون شاملة تمس جميع القطاعات وتضم كل الوسائل الممكنة, علاوة على أهمية إشراك الهيئات غير الحكومية من مؤسسات المجتمع المدني في سوريا, – والتي سعت السلطة بكل قوتها من اجل تحجيم عملها – في اتخاذ القرارات، مع أهمية وجود مجلس تشريعي منتخب بطريقة حرة ونزيهة يملك الوسائل الدستورية والقانونية التي تمنحه حق المبادرة في التشريع دون عوائق، ومراقبة الحكومة ومحاسبتها في إدارتها للشأن العام، ويكتمل هذا البناء بوجود نظام قضائي عادل ومستقل قادر على تأدية دوره في إحقاق الحق ومعاقبة المخالفين وليس خاضعاً لإملاءات السلطات التنفيذية والأمنية بكل أنواعها, كما يحدث الآن.
3- تشمل التنمية البشرية معالجة مشكلة تزايد السكان، فالزيادة الكبيرة تلتهم التنمية، والتنمية تخضع لقانون صارم يفرض خفض معدلات نمو السكان مقابل رفع معدلات النمو الاقتصادي. وتحتاج الدولة هنا لسياسة أكثر وضوحاً لمعالجة الزيادة السكانية الذي ما زال كبيراً، رغم تراجعه في السنوات الأخيرة، وهذه ظاهرة إيجابية. أي يجب وضع سياسات وإجراءات تساهم في تقليص معدل تزايد السكان من 2% في عام 2005 إلى 1.5% حتى عام 2010. وذلك ليتناسب تقريباً مع معدلات النمو الحقيقية.
وما سبق هو بعض من المشاكل الكثيرة والمعيقة لعملية التنمية.
فلذلك الحرية في هذا الأمر هي المحور، حيث إن تنمية رأس المال البشري هي تنمية قدرات الإنسان / المجتمع التي لاتأتي قسراً ولا تتحقق في مناخ استبدادي أو بناءً عل قرار سلطوي، كما إن العدل الاجتماعي لا مكان له في ظل نظام يحتكم إلى حزمة متكاملة من قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، التي تعيشها البلاد منذ نصف قرن تقريباً.
الحرية آلية تطوير حضاري، وهي في الآن نفسه ثمرة متطورة النضج لهذا التطوير، لقد سقطت منذ زمن طويل أسطورة المستبد العادل، لأن العدل الاجتماعي يأتي في إطار الحرية شرطاً، الحرية هي تحرير الإنسان من ربقة الجهل والمرض، والحرية هي حياة صحية مستقرة بدون الخوف غير الغريزي، كالخوف من السلطة ورجال الأمن فيها، الخوف من دخول أي دائرة حكومية، الخوف على الوظيفة أو من عدم إيجادها، الخوف المقيم والمستوطن في نقي عظامنا من (مخفر وهمي) نحمله بين أكتافنا على الدوام، الخوف الكبير على أطفالنا من الحرب وويلاتها ومن تكرار ماحدث في بلدان كثيرة وقد يكون أقساها ما يحصل الآن في العراق، الخوف…. الخوف….الخوف من خفايا الأيام أو ما يخفيه المستقبل من مفاجآت مخيفة على الدوام، الخوف على لقمة الخبز ومن ضياعها.
لقد غدت مفردة الخوف دون وعي منا ملاصقة لكل شيء فينا، حتى أصبحت في سوريا (ثقافة الخوف) ثقافة متميزة لها حضورها القوي في كل مفاصل حياتنا، وقد تكون ماركة مسجلة باسمنا على الدوام.
فالحرية هي حرية التفكير دون خوف، وهي فرص ممارسة القدرة من اجل المشاركة الايجابية الواعية والمسؤولة في تحديد كل الخيارات الصحيحة التي فيها المستقبل المنشود، وهي الكفيلة بمواجهة كل تلك المآسي. والحقيقة إن الفعالية في حرية الفرد هي في النهاية، التصدي لكل صور الحرمان التي نعيشها، وان حرية الفعالية هذه التي لابد أن تتهيأ للأفراد من أبناء شعبنا والتي يجب أن تحكمها وتصبغها- بالحتمية – العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتاحة لنا، إذ ثمة علاقة تكاملية بين الحرية الفردية والتنظيمات السياسية والاجتماعية، وان محورية الحرية الفردية وقوة المؤثرات الاجتماعية تفرض علينا لكي نتصدى للمشكلات التي تواجهنا أن نعد الحرية الفردية التزاماً اجتماعياً، وان اتساع نطاق الحرية يمثل في آن، الغاية التي لها الأولوية والوسيلة الأساسية للتطوير والتنمية، حيث أن قوام التنمية، هو إزالة مختلف أنماط افتقاد الحريات التي تحد من خيارات الأفراد، وتقلص فرص ممارسة فعاليتهم المبررة، وللوصول إلى فهم كامل عن الرابطة بين التنمية والحرية، فانه علينا تجاوز حدود الاعتراف الأساسي (مع الإيمان بمحوريته)، ويبدو بوجه عام إن الأهمية الجوهرية للحرية البشرية باعتبارها الهدف الأسمى للتنمية، إنما تستكمله بقوة الفعالية الآداتية لأنواع محددة من الحريات، من شأنها دعم وتعزيز حريات من نوع آخر، ولا ريب في إن الروابط بين مختلف أنماط الحريات هي روابط تجريبية وعلمية وليست تكوينية وتشكيلية حسب تفسير ” أمارتيا صن ” ويبدو ذلك واضحاً من خلال ما نفتقده من حريات يومية في سوريا : أضف إلى ذلك الاعتقالات المستمرة على مدار الساعة, والتي تنهك المجتمع بخوف من نوع آخر, ويتجلى ذلك بسجون مليئة بالمئات من خيرة المفكرين والمثقفين والمهتمين بالشأن العام على كافة المستويات, ولن تستقيم مسيرة التنمية في سوريا, إلا بحزمة عديدة من القرارات, والإجراءات والتي في مقدمتها وقف الاعتقال السياسي, والإفراج عن كافة معتقلي الرأي, والبدء فوراً بالإصلاح السياسي بكل أبعاده, حيث ثمة دليل قوي, على إن الحريات السياسية, والتنمية المتكاملة تعزز بعضها بعضاً، لا أن تعادي إحداها الأخرى, على نحو ما يذهب إليه منظرو السلطة في أكثر الأحيان, من أن الحرية والديمقراطية هي بدعة غربية, لا تصلح لمجتمعاتنا في الوقت الحالي؟
فلكل هؤلاء نقول : إن الحرية قانون أساسي من قوانين الطبيعة، تربّت عليه الإنسانية منذ الأزل، وطوّرته، بحيث لا يتناقض مع القوانين الحضارية الأخرى في أية دولة تعيش العصر الحالي، ولن تستطيع كل أنظمة الحكم المستبدة والتي تسير بعكس التاريخ أن تلغيه من قاموس البشرية.
السويداء – شهبا
marwanhamza@maktoob.com
* أمارتيا صن : عالم اقتصادي هندي، أستاذ بجامعة كمبردج, حائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1998