يميل السوريون (ومعظم العرب حقيقة) إلى الاعتقاد بأن دول أوربا الغربية أكثر تفهماً لقضاياهم من الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي ينعكس وبشكل تلقائي في حذرهم عموماً من سياساتها تجاه المنطقة بل وموقفهم عندما ترد كلمة أمريكا إلى المسامع، خلافاً لما هو الأمر بالنسبة للدول الأوربية. إن قراءة سريعة لتاريخ علاقة السوريين بالولايات المتحدة تشير إلى أن الصورة آنفة الذكر تبدو معكوسة اليوم مقارنة بما كانت عليه حتى النصف الأول من خمسينات القرن العشرين، ففي حين كان النهج الفرنسي والإنكليزي لدى السوريين مرادفاً للاستعمار ومشاريعه ومقترناً بتقسيم وإعادة تقسيم المنطقة، كانت صورة الولايات المتحدة مختلفة بما يخص سوريا واستقلالها واحترام إرادة شعبها، فقد قدّمت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وعبر مندوبها إدوارد ستاتينيوس مشروع قرار لمجلس الأمن (بتاريخ 16 شباط 1946) يطالب فيه بسحب القوات الفرنسية والبريطانية من سوريا؛ إضافة إلى ذلك عرفت فترة الأربعينات من القرن الماضي تنامي في التبادلات التجارية المتسمة بالأهمية بين الجانبين(1)، إلا أن تطور علاقات الدول الكبرى فيما بينها ومصالحها (سنتحدث عن ذلك فيما بعد) والتكتلات العالمية آلت إلى جعل الولايات المتحدة تقترب من المنطقة لتصبح فاعلا سياسياً رئيساً في مراحل لاحقة وبشكل يتضارب مع تطلعات وطموحات، بل وحريات، ناسها؛ إضافة إلى حقيقة أن سوريا، وبحكم موقعها الجغرافي وتاريخها، أصبحت موضع تنازع مصالح وصراعات دولية مستمرة عليها سواء بشكل مباشر أو عبر حكومات محلية مزروعة من قبل الدول الكبرى.
عندما حصلت سوريا على استقلالها الكامل نهار الأربعاء 17 نيسان 1946 حكمتها البرجوازية الوطنية بالتحالف مع الإقطاع وكان نظامها السياسي جمهورياً وبرلمانياً على النمط الغربي، وسياستها الخارجية كانت مؤيدة للغرب. ومع الاستقلال بدأت مشاريع الهيمنة على سوريا إذ جدد الملك عبد الله بن الحسين دعوته للمشروع الذي طرحه من قبل (في 6 آذار و8 نيسان 1943) والذي يرمى به، وتحت اسم “سورية الكبرى”، إلى السيطرة على كل من سوريا ولبنان وفلسطين وضمهم لإمارته ولكن الشعب كان يرفض ذلك، كما أن النواب السوريين في البرلمان صوتوا (بتاريخ 23 تشرين الثاني 1946) ضد الوحدة مع الأردن برئاسة الأمير عبد الله وذكر النواب أنه إذا كان الأمير عبد الله يريد ضم سوريا إليه فمن الأولى أن تضم سوريا الأردن إليها وتضعها تحت النظام الجمهوري لأن “الأردن كان في السابق جزءاً من سوريا”. كانت فرنسا ضد أي وحدة بين سوريا والأردن والعراق خوفاً من نشر النفوذ الإنكليزي في المنطقة وهذا ما دفع فرنسا لبيع السلاح لسوريا لمقاومة مشروع “سورية الكبرى” وأيضاً مشروع “الهلال الخصيب” بينما كانت الولايات المتحدة مع أي وحدة تقوم إذا كانت بإرادة الشعب، وأنها لا تعارض وحدة الشعوب بإرادة حرة.
بعد الحرب العالمية الثانية حاولت بريطانيا طرد فرنسا من سوريا ولبنان، وشعرت حينها الحكومة الفرنسية أن هناك مؤامرة أنجلو-أمريكية لإبعادها عن سوريا حتى قبل الاستقلال حيث اقترح قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط على الوزير الأمريكي المفوض وودسورث (George Wadsworth) بأن تأخذ الولايات المتحدة على عاتقها “تنظيم وتدريب قوات الدفاع وقوى الأمن السورية واللبنانية وذلك في 19 تموز 1945، وفي 26 تموز أعلم الوزير الأمريكي المفوض بلاده بذلك (أي باقتراح قائد القوات البريطانية) كما أن المفوض لدى سوريا ولبنان قام بإعلام رئيس جمهورية البلدين بمشروع الاتفاق وقال: “إن ذلك سيلقى قبولاً حسناً لدى حكومة صاحبة الجلالة”.
في 3 آب 1945 طلبت سوريا رسمياً من الولايات المتحدة تزويدها بالسلاح وبالمعدات العسكرية وبالخبراء فقامت الحكومة الأمريكية بإعلام الفرنسيين بذلك مما جعل السفارة الفرنسية بواشنطن تقوم بإبلاغ الحكومة الأمريكية في 5 تشرين أول 1945 بأن “موافقة واشنطن على طلب سوريا هي بمثابة خطوة غير ودية تجاه الحكومة الفرنسية” ولذلك اعتذرت الحكومة الأمريكية عن تلبية المطالب السورية. مع العلم أن فرنسا نفسها، وخوفا على انحسار نفوذها في سوريا ولبنان وتوسع النفوذ البريطاني، كما أسلفنا، باعت سوريا أسلحة قديمة.
في حين حاول الإنكليز إفراغ المنطقة من النفوذ الفرنسي والحلول محله إلا أنهم لم يتمكنوا من تحقيق هدفهم بمطلقه إذ حلّت الولايات المتحدة في مرحلة لاحقة محل بريطانيا وخاصة بعد خروجها زعيمة للعالم الغربي نتيجة للحرب العالمية الثانية. كانت الولايات المتحدة حينها تتمتع بسمعة طيبة عبر العالم وخاصة في الشرق الأوسط (حيث لم يكن لها أي دور في استعمار المنطقة بينما غرقت فرنسا وبريطانيا بتاريخيهما الاستعماري الطويل وتضييع أحلام العرب بدولة عربية وتقسيم أراضيهم باتفاقية سايكس بيكو.
بعد الحرب العالمية الثانية غيرت الولايات المتحدة من رأيها الذي كان يقوم على أن المسؤولية الكبرى عن المنطقة وأمنها تقع على عاتق بريطانيا فقط لأنها صاحبة النفوذ فيها، ففي عام 1945 بدأت بعض الأصوات الأمريكية تدعو لتبني سياسة “إيجابية” ومستقلة عن بريطانيا وحتى الحلول محلها فمن جهة لأن شعوب المنطقة لا تحب بريطانيا، ومن جهة أخرى لأن بريطانيا خرجت ضعيفة من الحرب العالمية الثانية ولا تستطيع أن تؤمن السيطرة على المنطقة بدون المساعدة الأمريكية؛ وهكذا بدأ الأمريكان بإبعاد السيطرة البريطانية للحلول محلها لدرجة جعلت وزير الدفاع البريطاني يعبر عن شكواه وحرجه برسالة بعثها إلى الوفد الانكليزي في حلف شمال الأطلسي في روما في 23 تشرين الثاني 1951 جاء فيها أن: “رئيس الأركان البريطاني يشعر بهاجس كبير من الطريقة التي يأخذ فيها الأمريكان كل ما يريدونه في شمال إفريقيا والشرق الأوسط” (المصدر: أرشيف الخارجية البريطانية ونشر في جريدة الشرق الأوسط بلندن في 16 شباط عام 1982).
وعلى العموم فقد تحددت السياسة الأمريكية في المنطقة بثلاثة أهداف أولها، الحلول محل الهيمنة البريطانية والفرنسية (والغربية عموماً) والتي خرجت ضعيفة من الحرب العالمية الثانية، وثانيها، منع الاتحاد السوفييتي من أخذ أي موقع في المنطقة، وأما ثالثها فهو تأمين نقل البترول من المنطقة وتأمين حصة كبيرة من هذا البترول لشركاتها وكذلك أخذ حصة الشركات المتواجدة. وهكذا اصطدمت المصالح الأمريكية المتعطشة لاستغلال نفوذ الولايات المتحدة وقيادتها للعالم الحر مع المصالح البريطانية.
ومنذ عام 1949 أدركت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع الاعتماد على نفس الطبقة السياسية الحاكمة التي تعتمد عليها بريطانيا وفرنسا لأن الحكومات التقليدية في المنطقة موالية لها نتيجة للماضي الاستعماري ووجدت (أي الولايات المتحدة) في ضباط الجيش الوسيلة الأسهل لتغيير الأمور وتحقيق النفوذ والمصالح، وهكذا أخذ الصراع على سوريا شكل انقلابات عسكرية؛ يضاف إلى ذلك ضغط اللوبي البترولي على الإدارة الأمريكية لمد خط لأنابيب البترول لينقل بترول شركة آرامكو السعودية عبر سوريا إلى البحر المتوسط. ومنذ ذلك الحين أخذت سوريا تحتل مكانة تزداد أهمية في الاستراتيجية الأمريكية الرامية لإحلال النفوذ الأمريكي في سوريا فقد عبّر الوزير المفوض الأمريكي بالسفارة بدمشق عن ذلك عند مقابلته رئيس الوزراء السوري حسن الحكيم، والتي أوردها الأخير في مذكراته: “إن بلادي تعطي أهمية خاصة لبلادكم بسبب التشابه الكبير بين بلدينا من حيث النظام الجمهوري والحياة البرلمانية الحقيقية وكذلك لأن سوريا هي العاصمة الروحية للدول العربية ولإمكانياتها الاقتصادية التي تبشر بالخير.” لكن، وبكل أسف، إن الأمريكيين هم الذين ضربوا النظام الجمهوري وقضوا على الحياة البرلمانية بدعمهم وتحريضهم لرئيس الأركان حسني الزعيم للقيام بأول انقلاب عسكري في سوريا. ومع ذلك، وبالرغم من أن حسني الزعيم هو رجل أمريكا وهو صنيعتها إلا أنها مجدداً رفضت الاستجابة للمطالب السورية لبيعها السلاح في عهده أو في عهد خلفه خالد العظم الذي طلب في 9 كانون الثاني 1950 من الولايات المتحدة “شراء طائرات حربية مع إمكانية إرسال خبراء أمريكيين لتدريب الطيارين السوريين عليها” (The Foreign Relations of the United States, Near East and North Africa, 1950, Vol. V, p.1203) وقد ظهر صراع الغرب على سوريا بشكل واضح من خلال النزاع الذي دار بين شركات البترول الإنكليزية والأمريكية. فمنذ عام 1948 كان هناك صراعاً حاداً بين شركة آرامكو السعودية للبترول (والتي تسيطر عليها الحكومة الأمريكية) وبين الحكومة البريطانية التي حاولت إحباط استراتيجية التوسع البترولية الأمريكية.
في بداية عام 1949 ترددت الحكومة السورية التي يتمتع فيها الإنكليز بنفوذ قوي بالتوقيع على اتفاقية مد خط الأنابيب لشركة آرامكو عبر سوريا، والحقيقة أن تردد الحكومة السورية كان نتيجة لإضراب الطلاب ضد هذا الاتفاق مما سبب الإطاحة بحكومة جميل مردم بك (البريطاني الميل) ووصول حكومة خالد العظم الذي حاول مراضاة كل من فرنسا بالتوقيع على الاتفاقية النقدية لربط الليرة السورية بالفرنك الفرنسي ومراضاة الولايات المتحدة بما يخص مرور النفط السعودي وذلك بالموافقة على مرور البترول مقابل عائد مالي يبلغ سبعة آلاف دولار (7000 $) سنوياً في الوقت الذي تكلف فيه حماية خط الأنابيب التي تقع على مسؤولية الحكومة السورية أربعة عشر ألف دولار (14000 $) سنوياً (أي الضعف تماماً) مما أغضب الشعب وأدى لقيام المظاهرات المعادية للحكومة وللاتفاقية ولم تستطع قوى الأمن السيطرة عليها فلجأت الحكومة إلى الاستعانة بالجيش لإحلال الهدوء، الأمر الذي أعطى قائد الجيش حسني الزعيم فرصة لتحقيق انقلابه في 30 آذار 1949 ولقد أورد مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم (صفحة 73) قصة الانقلاب بقوله: “إن هذا الانقلاب هو جزء من تحضيرنا وتخطيطنا فقد ربط، فريق العمل السياسي تحت إشراف الميجر ميد (Meade) علاقة صداقة مع حسني الزعيم الذي كان وقتها رئيساً لأركان الجيش السوري وعن طريق هذه الصداقة أوحينا له بفكرة الانقلاب العسكري الذي أمنّا له نحن بالسفارة بدمشق كافة التفاصيل.” (Miles Copeland, The Game of Nations: The Amorality of Power Politics.p.73. ). رحبت الجماهير واحتفلت بالانقلاب وأيدته حينها أغلبية الأحزاب ولم يمض وقت طويل حتى خابت الآمال بالانقلاب وقائده خاصة بعد الموافقة على الاتفاقيتين وبعد تصريح الزعيم بأنه “عازم على أن يلعب دوراً كبيراً في خلق كتلة إقليمية موجهة ضد الشيوعية مطالباً بتبني حلف شبيه بحلف شمال الأطلسي في الشرق الأوسط طالما أن الولايات المتحدة وعدت بمساعدة عسكرية واقتصادية، هذا الحلف الذي يشكل خط دفاع ثاني وراء تركيا المسلحة من قبل الولايات المتحدة” (المصدر:New York Harald Tribune, 10 July 1949). كتب البروفيسور لينستوفسكي، الخبير بسياسة الشرق الأوسط : “لقد رأت الولايات المتحدة بحسني الزعيم قائداً عربياً قادراً على توقيع السلام مع إسرائيل وعدواً شرساً للحزب الشيوعي السوري ومعادياً للاتحاد السوفييتي” (George Lenczowski, The Middle East in World Affairs, 1952. p.347). من الجدير بالذكر أن حسني الزعيم قد جدد طلب معدات وألبسة عسكرية من الولايات المتحدة (في 30 تموز 1949). وليس من زائد القول هنا أن الطلب السوري بشراء السلاح الأمريكي تجدد أكثر من مرة وعلى مدار سنوات وفي عهد أكثر من رئيس سوري (منها، على سبيل المثال، ما تم عند لقاء للرئيس شكري القوتلي ورئيس أركانه شوكت شقير مع مسؤولين أمريكيين في نيسان 1955 حيث تم طلب شراء 60 دبابة و1700 عربة شحن و850 شاحنة، إلا أن الأمريكيين تجاهلوا الطلب). وعلى عكس تعاملها مع الطلب السوري المتكرر للتزويد بالسلاح منها قامت الولايات (وكذلك فرنسا) ببيع السلاح لإسرائيل. والوضع هكذا، لم يكن أمام سوريا سوى خيار الاتجاه نحو الاتحاد السوفييتي ودول أوربا الشرقية، فقد وافقت الحكومة السورية على العرض السوفيتي “بمبادلة القطن و القمح السوري بالأسلحة” (المصدر: ولبركرين ايفلاند ، حبال من رمل – قصة إخفاق أمريكا في الشرق الأوسط ” ، ترجمة سهيل ذكار ، دار حسان ، دمشق، الطبعة الأولى 1990، ص 228. ) لتترافق بعدها بشراء كميات كبيرة من السلاح من الاتحاد السوفييتي. ومن ثم تتكرر صورة الموقف الأمريكي هذه بأشكال وعلى صعد أخرى فعلى سبيل المثال، بعد مفاوضات طويلة ومضنية رفضت الولايات المتحدة تمويل وإنشاء مصفاة لتكرير النفط في حمص. خلافاً لذلك فقد تقدمت (عام 1956) شركة تشيكوسلوفاكية و أخرى بلغارية بعرض مقنع لإنشاء المصفاة.
نعود لانقلاب حسني الزعيم والموقف البريطاني منه المتلخص بما أشار إليه مراسل صحيفة تربيون الإنكليزية في 11 سبتمبر 1949 الذي يرى أن بريطانيا “لم تكن سعيدة وبقيت خارجاً في الصحراء” وأن الزعيم انتقد النفوذ البريطاني في العراق والأردن. وقد بدأ حسني الزعيم بإثارة المشاكل مع الأردن والعراق وسلم أنطون سعادة الذي هرب إلى سوريا (للحكومة اللبنانية) وسجن القادة الوطنيين مما أغضب شريحة واسعة من الشعب. كما أحست بريطانيا بخطورته على مصالحها ومصالح عملائها في المنطقة بهجومه على فكرة “سورية الكبرى” معلناً أن الأردن “محافظة سورية” كما أنه انضم لحلف السعودية/مصر بعد زيارته للقاهرة. أما الدبلوماسية الإنكليزية فقد فشلت في إبقاء النفوذ البريطاني في سوريا على المدى البعيد. في 21 تموز عُقد في لندن مؤتمرٌ للدبلوماسيين البريطانيين في الشرق الأدنى (فيجن)، ولم تتأخر الجهود البريطانية بالتعبير عن نفسها حيث قام الكولونيل سامي الحناوي بانقلاب عسكري جديد في 14 آب وأعدم حسني الزعيم ورئيس وزرائه وقد أعلنت الصحافة الأجنبية أن هذا الانقلاب جاء نتيجة للتدخل البريطاني (انظر: وثائق فرنسية، مقالات ووثائق. رقم 1655 تاريخ 20 سبتمبر 1949). فحققت بريطانيا بذلك نصراً مؤقتاً ودموياً وقد كتبت جريدة لوموند في عددها المؤرخ في 17 آب 1949: “إن سقوط الزعيم يشكل أيضاً فشلاً للنفوذ الفرنسي.” وهكذا كانت انقلابات الفترة في سوريا تعبيراً عن صراعات دولية فانقلاب الزعيم هو نصر للأمريكيين وانقلاب الحناوي للإنكليز والانقلاب الثالث (أديب الشيشكلي) الذي قضى على أحلام الإنكليز سواء بتحقيق “سورية الكبرى” مع الأردن أو “الهلال الخصيب” مع العراق الذي وقع في 19 أوكتوبر 1949 ورمز بذلك لنصر أمريكي جديد ولديكتاتورية دموية لم تعرفها سوريا من قبل. وقد تم الانقلاب على الشيشكلي في 25 شباط 1954 بواسطة اليسار والقوى الوطنية، وبدأ نفوذ اليسار في الجيش السوري. وغدت العلاقات السورية الأمريكية تأخذ منحى لا لبس في تصنيفه بالمشوب، تمظهر ذلك بأكثر من شكل فقد طردت سوريا عاملين في السفارة الأمريكية معتبرتهم أشخاصاً غير مرغوب فيهم، وذلك إثر اعتراف مجموعة من الضباط السوريين بأنهم تلقوا أموالاً من الولايات المتحدة للقيام بانقلاب 22 نوفمبر عام 1956 وصدور مذكرات اعتقال بحق 47 متهماً بينهم نوابٌ وضباطٌ في الجيش، ما حذا بالولايات المتحدة إلى استدعاء سفيرها بدمشق (جيمس موز) للتشاور احتجاجاً على الاتهام السوري “الزائف” حسب تعبيرها ـ ومن ثم أغلقت سفارتها بدمشق كما طردت اثنين من طاقم السفارة السورية بواشنطن واحدا منهما كان السفير السوري فريد زين الدين. وهكذا، وبنفوذ اليسار في الجيش السوري بدأ الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها ضد حلف بغداد والذي أدى إلى تقارب مع جمال عبد الناصر ولاحقاً إعلان الوحدة المصرية السورية في 22 شباط 1958. لابد من التذكير والإشارة السريعة إلى أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية (المساند للموقف السوفييتي في مجلس الأمن) من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 والمطالبة بانسحاب كافة القوات الأجنبية من مصر وكذلك ضغط الرئيس الأمريكي أيزنهاور بهذا الاتجاه قد لاقى ترحيب كل العرب وامتنانهم. خلال سنوات الوحدة ـ بحسب ما تعج به الأخبار حينها ـ لم تكن سوريا بعيدة عن مجهر الولايات المتحدة التي رأت أن هناك “قلاقل يمكن استغلالها في سوريا وهي الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة تفتح فجوات و ثغرات” حسب تعبير ليندون جونسون نائب الرئيس الأمريكي جون كنيدي في مجلس الأمن القومي بتاريخ 15 أيار 1961. بعكس سير العلاقات الأمريكية السورية إلى الأسوأ منذ منتصف الخمسينات وخلال سنوات الوحدة مع مصر وبعد الانفصال أخذت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية تتنامى أكثر من حيث التعاون والمساعدة الأمريكية السياسية والعسكرية لإسرائيل فقد أعلن الرئيس الأمريكي جون ف. كنيدي عام 1962 إثر اجتماعه بغولدا مائير وزيرة الخارجية الإسرائيلية أن أمريكا تعتبر إسرائيل حليفتها في الشرق الأوسط ومن ثم تبع ذلك تزويد إسرائيل بالسلاح.
بعد حرب حزيران عام 1967 التي انتهت بالهزيمة واحتلال إسرائيل لأراض عربية (منها الجولان) اتسم الموقف العربي عموماً بردود أفعال متشددة وحازمة كما في مؤتمر القمة العربي الرابع المنعقد في الخرطوم (في الفترة الممتدة ما بين 29 آب ـ 2 أيلول 1967) حيث جسدت اللاءات الثلاثة (لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف) ذلك الموقف. وفي 22 تشرين الثاني من ذات العام أصدر مجلس الأمن قراره الشهير رقم 242 الذي استند إلى مشروع قرار تقدمت به بريطانيا (عبر وزير خارجيتها جورج براون) وبتوافق تم بين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية جونسون ورئيس الوزراء السوفييتي ألكسي كوسيغين في مدينة غلاسبو بالولايات المتحدة. أخذت سوريا والعراق والجزائر ـ وكذلك المنظمات الفلسطينية ـ على القرار المذكور أنه بدلاً من مطالبة إسرائيل غير المشروطة بالانسحاب إنما يعطيها امتيازات (منها حرية الملاحة في الممرات المائية وغيرذلك…) كما ويتجاهل القضية المركزية، سبب الصراع الدائر في المنطقة أي القضية الفلسطينية، ويختزلها إلى “تسوية” “مشكلة اللاجئين”، بل وينزع إلى الغبن لتضمنه في واحد من بنوده الأربعة ما ينص على أن إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط يستوجب: “سحب القوات الإسرائيلية المسلحة من أراض احتلت في النزاع الأخير” أي بحذف أداة التعريف (the) من النص الإنكليزي وقد تمسك الإسرائيليون بأن ذلك يعني أن الانسحاب لن يكون بالضرورة شاملاً؛ وبرغم من إبقاء كل من النصين الفرنسي والأسباني على أداة التعريف (وكذلك تذكير فرنسا والاتحاد السوفييتي والهند ونيجيريا ومالي قبل الموافقة على القرار أنها تفهم أن الانسحاب سيكون شاملاً) فقد أصرّت إسرائيل، ودعمتها في ذلك الولايات المتحدة، أن النص الإنكليزي، والذي لا يطالبها بالانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، هو الأساس. ولمتابعة تنفيذ القرار 242 عينت الأمم المتحدة جونار يارنج (سفير السويد في موسكو) مبعوثاً خاصاً لها وقد قام بعدة جولات على مدى سنوات ثلاث باءت بالفشل نتيجة التعنت الإسرائيلي من مسألة إعادة الأراضي العربية المحتلة (وعلى الأخص الجولان والضفة الغربية) أو الموافقة على إقامة دولة فلسطينية. وفيما تصر إسرائيل على عدم إعادة الأراضي المحتلة لأصحابها والتملص من حل شامل في المنطقة جاء مشروع وزير الخارجية الأمريكي ويليام روجرز لـ”السلام” (9 أيلول 1969) ويعتمد أن تحدد “إسرائيل” ومصر جدولاً زمنياً للجلاء عن سيناء مقابل “سلام” حقيقي بين البلدين، ما رآه الكثير من المحللين حينها أنه محاولة لإخراج مصر من صف المواجهة؛ ومن ثم أعاد روجرز طرح مشروعه (في 25 حزيران 1970) الذي يقول هذه المرة أن على الأردن ومصر وإسرائيل إقامة سلام دائم استناداً للقرار 242، الأمر الذي رآه السوريون والفلسطينيون على أنه انتهاج الحلول الجزئية لإحداث شرخ في الموقف العربي وإضعافه وتقسيمه. وهكذا بقيت إسرائيل تماطل في السير نحو الحل الشامل وتسعى على الدوام لمضيعة الوقت متحدية قرارات الأمم المتحدة و”الشرعية الدولية” ومستندة في تعنتها إلى دعم الولايات المتحدة المطلق واستخدامها للفيتو عندما يتطلب الأمر ذلك.
بعد الهزيمة، شدد السوريون أن الحل الشامل يُترجم باستعادة كافة الأراضي العربية المحتلة بعد 1967 وبإيجاد الحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية بكافة أبعادها (الأراضي، اللاجئين، العودة…) والتي شكلت بدورها (لأسباب كثيرة لا مجال لتعدادها أو الاستطراد بالبحث فيها هنا) ميزان حرارة جميع السوريين شعباً و نظاماً ـ قبل انقلاب حافظ الأسد، وقد تمظهرت مؤازرة الفلسطينيين بأكثر من شكل منها دعم العمل الفدائي، فإضافة إلى الانضمام الطوعي للأفراد ضمن صفوف الفصائل الفلسطينية كان هنالك الدعم العسكري بقرار من قيادة البلد بالدخول للأردن لحماية الفلسطينيين عام 1970 أثناء ماعرف بـ”أيلول الأسود” وسط دهشة العرب وقلق العالم بقطبيه، الشرقي والغربي على حد سواء، من أن يؤدي ذلك التدخل إلى تصعيد عالمي.
في تلك الأوقات، لم تكن صورة “القيادة السورية” بشكل عام، وعلى الصعيدين الدولي والعربي، بأفضل حالاتها، فالعلاقة مع الغرب ليست ودية، والعلاقة مع الشرق (وبرغم الصداقة) لم تكن على أحسنها، فإلى جانب الرفض السوري للقرار 242 والذي أراد السوفييت من سوريا أن تقبله ـ على غرار الموافقة المصرية عليه كان سلوك السوريين مغضباً لهم وفي أكثر من مناسبة (منها على سبيل المثال لا الحصر، عدم السماح للأسطول السوفييتي بالدخول إلى مرفأ اللاذقية للتزود بالمؤن والوقود ـ لأنه لم يسبق تقديم طلب رسمي بذلك، كما أن زيارة الوفد الحزبي السوري بقيادة صلاح جديد، الأمين العام لحزب البعث حينها، لم تختتم ببيان بسبب الاختلاف ـ لأن الوفد السوري احتج على السماح السوفييتي لليهود بالهجرة إلى إسرائيل، وكذلك كان توضيح السوريين للسوفييت بأن القرار السوري “مستقل” وسوريا بلد ذات “سيادة” كما جاء على لسان الرئيس السوري نور الدين الأتاسي في توضيح للسفير السوفييتي نور الدين محي الدينوف الذي نقل الرسالة السوفييتية بأن الدخول العسكري السوري إلى الأردن يهدد بتصعيد عالمي نظراً لما يتمتع به نظام الأردن من دعم غربي وخشية التدخل الإسرائيلي… إلخ). أما نظرة عرب الخليج النفطي من سوريا فلم تكن حينها بالودية أو المقربة إذ كان السوريون في تلك الفترة قد حددوا مواقفهم واعتبروها مبدئية مِن، وحيال، مَن يسمونهم بـ”الرجعية العربية”.
بموازاة المواقف المتشددة والحازمة التي كانت تصدر عن القيادة السورية عامة، كان الفريق حافظ الأسد وزير الدفاع حينها يرسل الإشارات، بطريقة أو بأخرى، هنا وهناك ليوضح أن مواقفه متباينة عن مواقف بقية أعضاء القيادة، كما أنه، ومنذ العام 1968، بدأ يرتب بهدوء وينسج العلاقات الخاصة مع هذا الطرف أو ذاك محلياً وعربياً وعالمياً ليرضي الجميع ويشعر كل منهم بأنه (أي الأسد) الرجل الواعد والموعود في المنطقة. في تلك الفترة، على سبيل المثال على نوايا وترتيبات الأسد، كانت قيادة البلد تطرح شعار “التحرير” إلى جانب “البناء” (“نحارب بيد ونبني بيد”) وأما حافظ الأسد فكان يشدد على عدم البناء ويزعم مردداً أمام رفاقه أن ليس لديه القوة الكافية والإمكانية لحماية ما يُبنى، سداً كان أو غيره مما يمكن أن يُشّيد، وأخذ يُركّز على تأجيل البناء وعلى أن الاقتصاد يجب أن يكون “اقتصاد حرب” وأن الميزانية يجب أن توضع بغالبيتها لصالح وزارة الدفاع، الأمر الذي تكشّف على حرص الأسد على استخدام هذه الميزانية مرحلياً لبناء علاقات خاصة مع ضباط الجيش ممن يريد الاعتماد عليهم بعدها لمناصرته في انقلابه، وتجلى ذلك في البعثات العسكرية وإرسال الضباط لأوربا بالعشرات بذريعة “التداوي” وصرف مهمات مالية للضباط “المتداوين” و”المبعوثين” بشكل لم يعرف له مثيلٌ من قبل في سوريا. وأما من كانت القيادة السورية حينها تسميهم بـ”الرجعية العربية” وتقاطعهم فقد انفرد الأسد بنسج علاقات مختلفة معهم بأكثر من طريق (وأحدها، على سبيل المثال، ذلك الذي يسّره له بدوي الجبل مع السعودية). ولم يكن ما يخطط له الأسد، كما هو معروف، ببعيد عن أعين السوفييت والمعسكر الشرقي عامة (ولم ينس الأسد أن يعدهم كذلك بإعطاء حقائب وزارية للشيوعيين السوريين). وبالفعل بدأ الأسد يبدو الرجل الأقوى وأثبت ذلك للجميع، وللغرب خاصة، حين دخل الجيش السوري للأردن في أيلول عام 70 لمساعدة الفلسطينيين ووقف سيلان الدم الفلسطيني إذ رفض حافظ الأسد استخدام الطيران السوري لحمايته مرسلا بذلك إشارة واضحة أن كلمته هي السائدة والأقوى ولا يوجد في القيادة السورية من يستطع تحديه أو مقارعته، وفي غضون حوالي الشهرين من ذلك التاريخ قام الأسد بانقلابه (16 تشرين الثاني 1970) الذي رحب به الغرب والشرق إذ يضع حداً لمن سُميوا حينها بـ”أصحاب الرؤوس الحامية” كما ورحب به عرب النفط. وفي أول خطاب له على مدرج جامعة دمشق أعلن حافظ الأسد ما كان قد أبدى استعداده من قبل أمام السوفييت بقبوله إذ وافق رسمياً على القرار 242.
بدأ الأسد يعزز من سلطته أكثر في الداخل بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى حيث تم تشكيل مجموعات أمنية جديدة ومجموعات ضاربة ضمن المؤسسة العسكرية (فروع المخابرات وسرايا الدفاع…) مهمتها بالمطلق حماية النظام واستمراره. تلقف الغرب جانب هاجس نظام الأسد في البقاء والاستمرار واستخدمه عندما تقتضي المصلحة بذلك ـ ومازال يستثمر به عند الضرورة في تعامله مع النظام المذكور.
كانت حرب عام 1973 بين سوريا ومصر من جهة وإسرائيل من جهة أخرى بمثابة نقطة تحريك لعلاقات نظام الأسد الدولية وبالتحديد مع إدارة الولايات المتحدة، وكان لجولات هنري كيسنجر ورحلاته المكوكية في الشرق الأوسط الأثر الأكبر على تغيير مجرى الصراع الدائر في المنطقة حيث اعتمد كيسنجر، كما صاغ هشام شرابي، أسس ثلاثة: أولها ترتيب سياسي عسكري أكثر منه حل قانوني وعادل، وثانيها، الالتفات إلى الحلول الواقعية أكثر من التركيز على الحقوق التاريخية أو ما إلى ذلك دون أن يكون هناك مشروع سلام محدد، وثالثها اعتماد المفاوضات طويلة الأمد عبر مسلك سياسة الخطوة خطوة، لقد انتهج كيسنجر، بتعبير ناحوم غولدمان: “دبلوماسية… فن تأجيل الامور التي لا يمكن ردها قدر المستطاع”. وكما هو معروف، كان للقاءات كيسنجر مع الأسد أثراً طويل الأمد من حيث التزامات الأسد لكيسنجر وما جاء بعدها من اتفاقية فصل القوات (أو “فك الاشتباك”) بين سوريا وإسرائيل التي وُقّعت في 31 أيار عام 1974 وما يستتبع بنود تلك الاتفاقية من تعهدات التزم بها نظام الأسد من جانبه التزاماً كلياً، وبالفعل لم يُحرّك ساكن على جبهة الجولان منذ ذلك الحين.
من مفارقات سياسة نظام الأسد في تلك الفترة ـ وما بعدها ـ أنه في الوقت الذي لاتكل ولاتمل وسائل إعلامه المقروءة والمسموعة والمرئية ووسائله الأيديولوجية (كالمناهج التدريسية على كافة المستويات) من تصوير أن أمريكا هي العدو الأخطر لسوريا (وللعرب) وهي وراء تحدي إسرائيل للشرعية الدولية كان نظام الأسد ينفتح أكثر فأكثر على أمريكا وعلى الغرب عموماً. بل وبدت سياسة الأسد وكأنها تنفيذ بالتحديد لما تريده أمريكا، فدخول السوريين للبنان وضربهم حينها “للحركة الوطنية اللبنانية” وإسقاطهم لتل الزعتر لم يكن خارج السياق المنوه عنه، كما أن انفتاح سياسة الأسد أكثر على دول الخليج وعلى الإسلاميين بالتحديد جاء وكأنه محاكاة وتماش مع السياسة الأمريكية الرامية حينها إلى ضرب قومية العرب بالترويج للإسلام (كما وضحت الوثائق المفرج عنها بعد فترة بخصوص الموقف الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً من قومية العرب). يجدر التذكير بأن نظام الأسد عرف على الدوام كيف يستفيد من تناقضات عالم القطبين (الشرقي والغربي) ومن الفراغات السياسية العالمية ويضع ذلك في خدمة نظامه عند اللزوم، ونظراً لإدراك نظام الأسد أن أياً من القطبين، لسبب أو لآخر، لن يتخلى عنه لم يمتنع عن فعل ماذا، وكل ما، يريد على الصعيد الداخلي بل وفي بعض الأحيان على الساحة العربية. فكم من فعل لم يرض عنه السوفييت والكتلة الشرقية قام به نظام الأسد (كالتدخل في لبنان ضد “الحركة الوطنية اللبنانية”) ومع ذلك لم تتزعزع علاقة النظام السوري مع المعسكر المذكور؛ وكم من مرة رتب بها نظام الأسد نصاب الأمور بشكل يتناسب ومصالحه أمام صمت العالم الغربي الذي لم يشأ التفريط بهكذا نظام لا صقل لمعالم سياسته الخارجية في عالم الاستقطاب.
وسط ارتياح نظام الأسد للمناخ السياسي العالمي الذي يتيح له ما يشاء فقد عزّز من سلطته الداخلية أكثر وذلك بالقمع، بالحديد والنار وسحب السياسة من المجتمع السوري وأرسى قواعد غريبة على سوريا لم يعرفها المجتمع السوري ـ حتى عندما كان البلد تحت الاحتلال ـ ترمي جميعها إلى هدف واحد هو استمرار النظام وديمومته وجعل سوريا وسكانها ملك خاص له يغلقها عن، وعلى، العالم ويفعل بها ما يشاء: يضرب، يسجن، يشرد، يقتل، يسحل ويرتكب المجازر التي لو حصلت في مكان آخر لحوسب عليها كل من اشترك في ارتكابها بصفتها مجازر بحق الإنسانية جمعاء. كل هذا والعالم بأسره يصمت حيال ما يجري في سوريا من استباح لحرمة الإنسان وانتهاك حتى لأبسط حقوقه.
لم تكن التغيرات السياسية العالمية قبل ومع بداية العقد الأخير من القرن العشرين (انهيار المعسكر الشرقي وعلى رأسه الاتحاد السوفييتي) بغير المتوقعة، ولم يكن حافظ الأسد ذلك العقائدي الصلب المحصن كي يتباطأ في التفتيش لنفسه عن مقعد في حافلة زمن التغيرات، ولهذا شارك في التحالف الذي قادته أمريكا ضد العراق لإخراج نظام صدام حسين من الكويت. في تلك الفترة، تكلم جورج بوش الأب عن عالم جديد وعن “نظام العالم الجديد” وعن “عالم حر” وعن زمن “زوال الديكتاتوريات” و”الأنظمة الشمولية” إلا أن مشاركة نظام الأسد في التحالف المذكور ساهمت أكثر في جعل الغرب يتعامل مع هذا النظام بشكل يسوده التفهم والمراعاة ليس فقط من قبل الأوساط الغربية السياسية الرسمية بل أيضاً ومن قبل منظمات مدنية ولها طابع حقوق إنسان، فأصبح النظام السوري يُوَصّف في العالم الغربي انطلاقاً من مواقف الأسد فبتنا نسمع مثلاَ “النظام القادم من البرد” والرجل [أي الأسد] الذي غير رأيه” و”الرجل الذي ينظر لمصلحة بلده” ووصل الأمر بمنظمة العفو الدولية أن يخلو تقريرها العالمي الصادر بعد حرب الخليج الثانية من أي إشارة عن وضع حقوق الإنسان والسجون والتعذيب…إلخ في سوريا وقد دافع أحد المسؤولين في المنظمة المذكورة عن ذلك التجاهل المتعمد لدى سؤاله من قبل أحد إخباريي القسم الإنكليزي براديو البي بي سي بأن ذلك ينسجم والتوجهات السورية الجديدة بالاقتراب “منا” و”نريد مراعاتهم وتشجيعهم”. وهكذا ببساطة رأت أمريكا، والغرب عموماً، سوريا من خلال علاقتها بالنظام الحاكم فيها ومدى تعاون الأخير معها. أما أداء نظام الأسد في سوريا فلم يكن مثار عناية أو اهتمام أحد إلا في بعض الأحيان عندما تطرقت منظمات حقوقية بخجل لموضوع انتفاخ السجون السورية بعشرات الآلاف من المعتقلين السوريين فحدث أن تاجر الأسد بهؤلاء السجناء وتعامل معهم كرهائن عندما جعل إطلاق سراح البعض منهم يتواقت مع ما قبل زيارة هذا المسؤول الغربي أو ذاك بقليل (جاء ذلك بدءاً من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية البريطاني الأسبق دوغلاس هيرد بعد حرب الخليج الثانية حيث أطلق سراح الآلاف من السجناء في سوريا). حري بنا التذكير أن كل ما حصل ويحصل من انتهاكات لحقوق الإنسان وتغييب للقانون يجري تحت ذريعة “الصراع مع إسرائيل”، وقلما خلت التُّهم لسجين سياسي في سوريا من واحدة لها علاقة بذلك من قريب أو من بعيد كتهمة إضعاف الروح القومية أو محاولة التسبب في وهن الأمة وإحباطها أو ما إلى ذلك. إذن خلاصة الأمر أن الأسد أوجد لنفسه الأمان العالمي عبر ملاقاته إملاءات ورغبات وتوجهات مالكي القوة وصناع القرار في العالم وبنفس الوقت استباح كل شيء داخل سوريا تحت عنوان وجود “العدو الإسرائيلي” وداعمته “أمريكا” وأصبح الشعب السوري أسير حروب النظام الكلامية مع “أعدائه” وسلمه الفعلي معهم وبات الشعب هو الخاسر الوحيد من حالة “اللاحرب واللاسلم” التي سادت على الجبهة السورية بعد الوساطة الأمريكية التي أدت إلى اتفاقية فك الاشتباك ـ كما ذكرنا سابقاً، ووعود الأسد لكيسنجر. وهكذا تَجسّد موقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الأسد بالتعامي المطلق عن سياسته الداخلية والتركيز على أدائه الخارجي، وانطلاقاً من هذا النقطة بالتحديد نجد أنه لا شح في امتداح حافظ الأسد وتقديره ووصفه بـ”السياسي الذكي”، “الوفي لكلمته” و”الملتزم بوعوده”، و”الغيور على مصلحة بلده” إلخ (مادام أذى الأسد لايتعدى سوريا وشعبها).
النظرة في الشارع السوري للولايات المتحدة سبكتها الأيديولوجيا المهيمنة في سوريا والتي تشدد على أن جميع المصاعب والعقبات، الفردية منها والجمعية، سببها أمريكا، فكم أفواه الشعب السوري (بحسب آلة النظام الأيديولوجية) سببه أمريكا التي لاتريد الحل العادل في المنطقة وإنهاء حالة “الصراع مع إسرائيل” إذ تساند إسرائيل وتدعمها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، والوضع الاقتصادي القاتل في داخل سوريا سببه أمريكا التي تناصر إسرائيل وتجعل الحل غير وارد المنال، ما يدعو لأن تذهب النسبة الأكبر من ميزانية سوريا، كما يزعم النظام الحاكم فيها، لـ “الدفاع”. وهكذا فإن صورة أمريكا المترسخة في الأذهان لها دواعمها وسط مناخ يُحَمّلها، بشكل أو بآخر، المسؤولية فيما ساد حيث لا الأسد، المرضي عنه أمريكياً ـ وغربياً، أعطى الأمان للشعب السوري ولاقضية الصراع ـ سبب معظم تقهقرات وضع الإنسان وحقوقه في المنطقة وكبرى الذرائع للأنظمة الاستبداديةـ عرفت طريقاً إلى الحل. بل وتردت مصداقية الولايات المتحدة إقليمياً (وبالأخص في سوريا) خلال سنوات التسعينات وما عصف بها من أحداث، فإجراء الحصار الاقتصادي على العراق وما نجم عنه من موت نصف مليون طفل عراقي رأته السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجة الأمريكية في مقابلة تليفزيونية (سي بي إس) معها عام 1996 على أنه “خيار صعب،” ولكنها تظن “أنه يستحق ذلك”؛ وكذلك مناصرة أمريكا لإسرائيل ومنع إدانتها في مجلس الأمن (باستخدام حق النقض الفيتو) إثر مجزرة قانا في 18 نيسان 1996 ضد المدنيين الهاربين من القصف الإسرائيلي في ما سمي عملية “عناقيد الغضب” والملتجئين إلى مقر قوات اليونيفيل فقتلت إسرائيل منهم 106 وجرحت المئات معظمهم من الأطفال والنساء، وغير وغير…هذا إن لم نتطرق بالتفصيل عن الواقع الفلسطيني العام والمشاهد اليومية التي قلما خلت من سيلان الدم الفلسطيني.
عند موت حافظ الأسد (10 حزيران عام 2000) لم تكن الإدارة الأمريكية بغير المتابعة باهتمام للحدث السوري، فكل من قرأ وسمع تعليقات وتحليلات المسؤولين والمحللين الأمريكيين في تلك الفترة لابد أن يكون قد ميز الحرص على استمرار سياسة حافظ الأسد الخارجية وكذلك الرغبة في رؤية توريث سلس للرئاسة للأسد الابن وتقديم النصح له، فالربع ساعة التي تحدثت بها السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية، وهي على رأس وفد بلادها لتقديم التعازي، مع بشار الأسد جعلتها تتفاجأ إذ بدا الأخير كإبن أكثر منه محادثاً لها كـ”رئيس” قادم لسوريا (بحسب مانقلته، بوجه واضح الابتسامة، أندريا كابل (Andrea Koppel) من بعثة السي إن إن المرافقة للسيدة السكرتيرة حينها). وفي حين كان المعروف بشكل عام محلياً وعالمياً أن بشار الأسد ما هو إلا “تلميذ في مدرسة حافظ الأسد” ـ بتعبير جيرمي بوين من طاقم البي بي سي لنقل الحدث حينها، نهل من تلك المدرسة الكثير قبل ذهابه إلى بريطانيا وتعلم فيها الأكثر خلال السنوات الست بعد عودته، إثر موت أخيه، وإعداده وتهيئته ليكون الوريث البديل، كانت النظرة الأمريكية حينها تركز على نواح أخرى فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نتذكر ماقاله ريتشارد ميرفي (سفير أمريكي سابق في سوريا وخبير بالشؤون السورية) في حديث تليفزيوني غاب عنه الكثير من التحليل في الوقت الذي لا عناء فيه للمشاهد لاصطياد المديح لبشار الأسد حيث طاف كلامه بالثناء على بشار الأسد فقد وصفه بمن عاش في الغرب ويحب أغاني البوب (مع إدراك الجميع أن إقامة بشار الأسد في بريطانيا لم تتجاوز بضعة أشهر تفاصيلها، حسب ماهو معروف، لاتخول الافتراض انه أصبح العارف بالحضارة أو الثقافة الغربية ليتعلم منها وبالتالي ليكون ذلك مَعلَم حكمه… كما أن حب بشار الأسد لأغاني فيل كولينز ليست مقياسا على ولع بشار الأسد بالغرب أو الأخذ بقيمه الديمقراطية والحرص على حقوق الإنسان ولا تنم عن حس فني هو بالضرورة نتاج عقلية يغلب عليها الطابع الإنساني الرقيق)؛ وكذلك وصف ميرفي بأن بشار الأسد خبير بالانترنت والمعلوماتية بدا زائداَ (في الوقت الذي يحجم به الكثير من الناس في الغرب عن إضافة أي عبارة تشير لمعرفتهم بالانترنت لخلاصة سجلهم أو سيرتهم الذاتية (CV) باعتبار أن ذلك بديهي حتى للأطفال في الغرب)؛ ثم يتابع مورفي في ذلك اللقاء التليفزيوني قائلا بأن على بشار الأسد التمسك تحديداً باللواء علي أصلان لتثبيت أقدامه ولتعزيز موقعه! بعبارة مختصرة، وبصرف النظر عن قناعة ميرفي وغيره بدقة ما وُصِف به بشار الأسد حينذاك أو إن كانت تلك المواصفات هي الأهم لـ “الرئيس”، لم يكن للأمريكيين رغبة في رؤية نظام آخر مجهول بالنسبة لهم فلم يكن لهم مصلحة إلا بالإبقاء على طينة نظام حافظ الأسد في سوريا. وباختصار شديد، لم نسمع أو نقرأ حينها عن الكلام عن السياسة الداخلية في سوريا فلا من متطرق لحقوق الإنسان والديمقراطية أو الانفتاح على الشعب السوري وإعادة حريته المستلبة، إذ انصب الاهتمام الأمريكي والغربي (الرسمي) حينها على الجانب الذي يخصهم بالتحديد..
***
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 والإشارة لهوية الفاعلين وانتمائهم الجغرافي والديني وصدور ردود الأفعال الأمريكية المباشرة (كصرخات الاستعداد “للحرب” لأنه “وقت الحرب” و تصنيف العالم إلى من “ليس معنا فهو ضدنا”إلخ…) دخل الهلع والذعر لقلوب عدد غير قليل من المسؤولين في الأنظمة العربية التي بدأت تتسابق لتثبت ولاءها لأمريكا، فحشّد المسؤولون في العديد من البلدان العربية مسيرات التعاطف مع الولايات المتحدة الأمريكية. من المفارقات الملحوظة أن نفس العلم الأمريكي الذي تحرقه الناس في المنطقة لسبب ما يتعلق بفلسطين أو العراق أو..أو.. رُفع بأوامر من المسؤولين، ومنهم من تقمصن به، وهناك من حمل يا فتات تقول “كلنا أمريكيون” و”كلنا نيويوركيون” إلخ. ورصد إعلام العالم من المَشاهد حينها في المنطقة العربية ما تحكي الكثير من المفارقات في التفاعل مع الحدث أو ما تشير بالحد الأدنى إلى التناقض بين ما تبغي الأنظمة المحلية نقله لأمريكا وما تبديه من تعاطف ومسيرات تضامن معها وبين ما يجري على أرض الواقع من ردود أفعال في المجتمعات التي تحكمها تلك الأنظمة، فعلى سبيل المثال تناقلت وسائل إعلام العالم مشهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ويده ممدودة ليتبرع بدمه لمن يحتاج في نيويورك وفي نفس الفترة كانت مجموعة فلسطينيين قد رمت قطع الحلوى ونثرتها في الهواء ليتلاقطها المتواجدون تعبيراً عن الفرح، وكذلك في نفس الوقت الذي كان به حكام دمشق يسارعون إلى إعلان التضامن والتنديد ويذكرون بأن “الإرهاب الإسلامي” نالهم قبل غيرهم ويعرضون خدماتهم (في المجال الاستخباراتي ويقدمون معلوماتهم عن بعض التنظيمات الإسلامية) كان الكثير من الشباب في سوريا يتبادلون محلياً ومع شبان آخرون في لبنان والأردن وغيرها من بلدان المنطقة رسائل إليكترونية عبر هواتفهم النقالة تلخص الهجمات في نيويورك بعبارات تعني الكثير فيما احتوته من كلمات مثل “صابت، ماخابت…” وتحمل ما تحمله، لدى موزعيها، من معان تتضمن تنفيس من وقع عليه شعور بالغبن التاريخي. باختصار شديد، لم تكن ردود الفعل الأمريكية المباشرة على أحداث 11 سبتمبر لتخيف الناس العاديين الذين ليس لديهم ما يخسرونه في ظل أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وذلك بعكس الأنظمة الحاكمة المذعورة. ومن جهة أخرى، لم يكن لليساريين والقوميين العرب إلا أن يعلقوا، ولو بالصوت الخافت بما معناه، أن الرعاية الأمريكية للإسلاميين لاستخدامهم في أفغانستان لم تكن إلا سلاحاً “ذو حدين”، أو “لقد انقلب السحر على الساحر” أو أن من قاموا بالإرهاب الأخير “هم الابن العاق لأمريكا”… جدير بالذكر أن الغضب الأمريكي (والتوضيح بالرد على العنف بالعنف وتغييب العقلانية) دفع بداية للضبابية في تحليل الحدث على مستوى العالم، إذ لم يتجاسر أحد على رؤية 11 سبتمبر إلا بما فيه الخوف من غضب أمريكا، ولم يتواجد من يجرؤ على قول ما لا تريد أن تسمعه أمريكا “الجريحة” والتي يقرع صناع القرار فيها طبول الحرب، أي حرب كانت، وذلك لاستعراض القوة وللقول بالصوت الهادر للجميع: هذه هي أمريكا “القوية”.
وسط أجواء 11 سبتمبر أخذ سؤال “لماذا تكره الناس أمريكا؟” يتردد على ألسنة ساسة أمريكا ومثقفيها كما انشغلت به لفترة ما وسائل إعلامها (مثال السي إن إن (Q&A) لجيم كلانسي و Insight لجوناثان مان)، كما وخصصت وسائل إعلام عالمية وقتاً لذات السؤال واهتم به أكثر من مثقف على امتداد العالم. ضمن محاولات الإجابة عن السؤال المطروح قيل الكثير عن سياسة أمريكا في العالم عامة (ولايزال يتفاعل مع الإجابة عن هذا السؤال العديد، وفي غير مكان، انظر مثلاً مساهمة الروائية الهندية والناشطة Arundhati Roy )، وتقاطعت الأقوال التي تحدد أن من بين أسباب الكره لأمريكا يبرز بشكل رئيسي التدخل الأمريكي في العالم كإشعال الحروب والدعم للأنظمة الديكتاتورية والوقوف بوجه المشاريع النهضوية للشعوب. وعن سياستها في العالم العربي بشكل خاص فقد جاء جواب من تجرأ على الكلام حينها ـ وهؤلاء لا يمثلون الأنظمة العربية ـ مليئاً باستعراض بعض مما تعاني منه شعوب المنطقة من مظالم ومنغصات (كالحلقة التلفزيونية “رسالة إلى أمريكا” التي أعدتها رنا قباني لبرنامج correspondent للبي بي سي وأسمعت أصوات الناس في الشارع العربي) فامتد حديث العرب إلى التذكير بما حدث ويحدث في العراق (تدمير ممنهج للبلد وبناه التحتية ولأناسه.. كأمثلة: قصف ملجأ العامرية ومعمل حليب الأطفال والحصار الاقتصادي الذي يسبب موت أعداد كبيرة جداً من الأطفال والشيوخ…) وما يحدث في فلسطين وسياسة الكيل بمكيالين وسياسة لوي الذراع إلخ. وفي الواقع، بدا جواب الشارع العربي على سؤال “لماذا تكره الناس أمريكا؟” وكأنه معكوس بسؤال: بل “لماذا تكرهنا أمريكا!؟” وإذ لايستطيع أحد إنكار أو تجاهل الحقائق سارع البعض برسالتهم “من أمريكا”، هذه المرة، (وضمن نفس المنبر آنف الذكر) إلى التوضيح بضرورة التمييز بين سياسة الإدارات الأمريكية في العالم (بما فيه الجزء العربي) وبين واقع شعب أمريكي، مثل نظائره، له ما له من هموم ومشاكل ذات طابع اقتصادي واجتماعي وسياسي مع القائمين على المؤسسة (establishment).
وحده الرئيس الألماني الراحل، يوهانس راو (Rau)، كان السبّاق حينها في العالم للإشارة بالقول إلى ما يفهم منه أن منع هجمات من نوع 11 سبتمبر في المستقبل يستدعي وجود نظم وقوانين متساوية لحكم الناس ولعيشهم على امتداد العالم، منوهاً بذلك إلى الخلل في الشروط الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والنفسية التي أنتجت الإرهابيين المعنيين. وفقط بعد أسابيع من الحدث المذكور بدأت بعض الأصوات الأمريكية ترتفع بوجوب المراجعة العقلانية للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية والالتفات للواقع الذي ولد إرهابيي الهجوم على مركز التجارة العالمي. وتمحور الخطاب الأمريكي لحين ما حول عدة نقاط أهمها إعادة النظر بالسياسة الأمريكية في المنطقة العربية التي اعتمدت طيلة الوقت ائتمان حكام على رأس أنظمة محلية أثبتت الأخيرة فشلها في القيام بالدور المفترض بها وتميزت بسوء أدائها في الحكم فكانت النتيجة هي الماثلة أمام أعين الجميع، وكتحصيل حاصل فقد تولد خطاب أمريكي يفيد بأن المراجعة السياسية المقصودة تستدعي العمل على كسب عقل وقلب الناس في المنطقة العربية، وهذا يترجم حصراً بأخذ ضيمهم بعين الاعتبار، وذلك يعني، فيما يعنيه، وضع مسألة الرعاية والغطاء للديكتاتوريات المحلية موضع البحث، كما وتطرق بعض من المثقفين والأكاديميين في الولايات حينها إلى ضرورة معالجة القضية المركزية في المنطقة (أي القضية الفلسطينية) و ما تولد عنها من صراعات مزمنة. وهكذا تكاد تكون تلك الفترة متميزة في الخطاب الأمريكي الذي بدا للشعوب في المنطقة العربية (والعالم) حينها وكأن أمريكا ما بعد 11 سبتمبر ليست هي نفس ما كانت قبله حيال مسألتي التعاطي مع الأنظمة المستبدة والموقف من المظالم الواقعة على الشعوب.
كانت مرحلة ما بعد الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان والإعداد لإسقاط نظام صدام حسين في العراق، لأهل المنطقة، فترة ترقب للقادم وانتظار مآل وعود أمريكا بوضع حد للأنظمة المستبدة والعمل على “الدمقرطة”، فالشعوب التي تعاني ما تعانيه من قهر وظلم واستبداد على أيدي الأنظمة الحاكمة وصلت حد اليأس من إمكانية فعلها شيء على طريق التغيير اعتماداً على النفس ـ وإن يكن التدخل الخارجي آخر ما قد ترغب به إزاء عقم نشاطها ومقدراتها. من هنا، اختلطت المشاعر، بعد غزو العراق، بين التهليل للخلاص من الديكتاتورية والاستبداد وبين الغم المكتوم خوفاً من المجهول الذي سيتمخض عن الاحتلال. عند هذا الحد يبرز تباين في المواقف بين صفوف المثقفين والمعارضين في المنطقة، بمن فيهم السوريين، ويبدو ذلك واضحاً، على سبيل المثال لا الحصر، بين ماركسي أصبح كذلك بحكم واقعه الطبقي أو لأنه رأى في الماركسية مفتاحاً للحل ومصباحاً ينير درباً يقود خارج دوامة واقع ما، (ولاغرابة أنه تبنى مواقف الماركسيين من الإمبريالية إلخ..) وبين ماركسي لجأ للماركسيين (وتنظيماتهم) في وقت ما لأنهم كانوا البوابة الوحيدة لإعلان التمرد على واقع يرغب بتغييره وليس له من سبيل آخر، ولكنه، بعد سلسلة الأحداث التي عصفت بالعالم والمنطقة، اكتشف أنه يتواجد في المكان الخطأ فاتجه نحو التركيز على الديمقراطية، وخلاصة فقد تمايزت المواقف بين من لا يصدق أن أمريكا معنية بالديمقراطية في المنطقة وتبقى مشاريعها واستراتيجياتها محصورة بتلك التي تصب في خدمة المصالح الأمريكية، لاشعوب العالم الأخرى، وبين من يريد أن يرى أن أمريكا غزت العراق للتغيير الذي وعدت به. انطلاقا من النظرة الأخيرة، تعالت أصوات في المنطقة، وضمنها سورية، تهلل لأمريكا ولسياستها ولديمقراطيتها فهذا المثقف يصرخ شكراً لسياسة أمريكا بتهديد الأنظمة حيث خفت عصا النظام الغليظة علينا وآخر، كما كتب شعبان عبود لصحيفة النهار بتاريخ 17 شباط 2004، يرفع ويشرب “كأس أمريكا في مقهى دمشقي” (من المعروف أن من يرتاده كان يتحسب غالباً لقول أي شيء يصنف بالحساس في سورية البعث والأسد خوفاً من ارتباط من يخدمون به بالمخابرات وتقديمهم المعلومات والتقارير عمن يرتادون المقهى) وبائع الخضار المتجول ذاك لايتردد في الصراخ بالصوت العالي في شوارع دمشق بأمنياته في سقوط النظام وحلول ما حلّ بالعراق عندنا… وباتت أنظار شعوب المنطقة تتجه نحو ما ستفعله أمريكا، ولم تستطع أقلام بعض المثقفين العرب (كما جاء في مقال لسيد القمني) إلا أن تسطر بشيء من سخرية المفارقات الشكر لأسامة بن لادن الذي آلت نتائج عنفه إلى حض أمريكا على أن تعيد النظر بسياستها في المنطقة ككل.
لكن ماحدث على أرض الواقع كان، في كل الأحوال، مغايراً للوعود التي قطعتها أمريكا، فقد رشَح الغزو الأمريكي للعراق بتفاصيل جعلت كل من يتكلم عن “الديمقراطية التي ستجلبها أمريكا للمنطقة” يقف على أرض هشة البنيان أخذت ترتج تحت أقدامه وتضعف بتدريج سريع حتى انهارت وسط سخرية أصحاب الرأي الأول (آنف الذكر) الذي لايثق بالنوايا الأمريكية. وقد عزز المناخ السائد برمته من القول إن أمريكا التي خذلت الشعب المنتفض في جنوب العراق ضد نظام صدام حسين إثر حرب 1991 لإخراجه من الكويت لم تكن لتستهدف نظام صدام حسين من أجل نفس هذا الشعب. ولم يعد تبرير أن أمريكا افتقدت الخطط المدروسة بدقة للغزو ولمرحلة ما بعد صدام حسين يقنع أحداً، فمنذ البداية، لاحظ الجميع أن القوات الأمريكية، عند سقوط بغداد، حرصت فقط على وزارة النفط وما احتوته من وثائق في حين استبيحت وأمام أعين الجنود الأمريكيين المسلحين أماكن أخرى تحتوي على الإرث الثقافي لأهل العراق على مر التاريخ (مثال المتحف). وكذلك فقد تم إيقاظ نماذج غير معروفة بديمقراطيتها وإنما بانتماءاتها القبلية والعشائرية والدينية والقومية لتتقلد مهام في حكم البلد ولتصبح ميليشياتها آلة تزرع الموت في كل مكان فأصبح العراق الذي نخره الاقتتال من كل الجهات بالنتيجة مقسماً، فعلياً لعراقات، (انظر كتاب بيتر غالبريث “نهاية العراق” Peter W. Galbraith, The End of Iraq: How American Incompetence Created a War Without End )، ناهيك عن فضائح صنّاعها ممن يفترض أن يقدموا مثالاً مختلفاً عما عرفه العراقيون والعرب من الأنظمة المحلية (أبو غريب، بلاك ووتر إلخ…). ونتيجة عدم الاستقرار وانعدام الأمان أصبح ملايين العراقيين خارج بلدهم. وبموازاة ما لحق بالعراق من خراب واقتتال وتشريد ونزوح أقليات، ثبت أن المسوغات التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل غزو العراق (كالقول بحيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب الذي يشكله نظام صدام حسين بحكم علاقته مع منظمة “القاعدة”..) لم تكن لتقترب من الصحة ولم تكن إلا تهم جوفاء نجحت في تسويقها بعض الأوساط واستندت إليها الإدارة، كما وضحت التقارير الأمريكية نفسها واعترفت الإدارة بذلك. لكن ما بين إطلاق الكذبة واعتمادها وما بين الاعتراف بأنها كانت كذبة هناك واقع به احتلال، شروط ليست بالأفضل ومئات الآلاف من الأرواح المحصودة ومشردين. بعبارة مختصرة، مع أن الخلاص من الديكتاتور في العراق كان مطلب الغالبية الساحقة من العراقيين، إلا أن مايراه العرب من “العراق الديمقراطي” بشكله الممزق وبالعنف المستمر فيه لم يعط النموذج الذي يستطيع بموجبه أحد في المنطقة (وبشكل خاص السوري الذي يراقب ويعيش بؤس ملايين العراقيين) أن يقول إن هذا هو عين ما نريده لبلدنا كبديل للاستبداد الذي نعاني منه على يد طغمة مافيوزية مستبدة مجرمة حاكمة فيه. وزيادة على ذلك فإن خارطة تقسيم المنطقة التي أصدرتها مجلة تتبع لوزارة الدفاع الأمريكية في شهر تموز من عام 2006 كبالون اختبار لترسيم جيوسياسي قادم للمنطقة (انظرhttp://www.armedforcesjournal.com/2006/06/1833899)، ومن ثم طرح مشروع تقسيم العراق وقرار الموافقة عليه 2007، إنما تجعل من القول الأمريكي عن هدف الدمقرطة والنظر بعين الاعتبار لواقع شعوب المنطقة سلعة كاسدة لا يجرؤ على شرائها أحد، بل وأكثر فإن الغالبية من المثقفين في المنطقة لا تستطيع أن تتفحص ما يجري إلا بصفته عامل يرسخ من قناعة سابقة وجدل بأن الخطوات الأمريكية إنما تصب في خدمة هدف استراتيجي لخلق دويلات على أسس قومية ودينية في المنطقة لأسباب عديدة منها ألا تكون إسرائيل هي النموذج الوحيد في المنطقة الذي يقوم على أسس دينية، وإلا، لماذا يدفع بالشعوب إلى هذا الواقع عبر إيقاظ القوميات والأثنيات والمكونات الدينية والمذهبية في المنطقة!؟ ومن جانب آخر، هل يمكن قبول التأسف الكلامي لحدث كان بالإمكان تحاشيه ومنعه قبل أن يحدث بدلاً من تغذيته فعلياً ليصبح هكذا ومن ثم يتم التأسف لحدوثه!؟ ليس من زائد القول هنا أن نذكر بأن السوريين لم يحتاجوا لعناء في التقاط هذه الإشارات وفكها عند ظهور من أراد طرح نفسه كجلبي سوريا (و باعتراف عين الشخص المقصود أن مصدر تمويله أمريكي وإسرائيلي) بدا أنه يريد تجميع عناصر وأحزاب قوامهم يغلب عليه الطابع الضيق في الانتماء (القومي أو الديني)، وانتهى بمجموعة مرتزقة ـ انتماءاتهم تحددها المنفعة المالية التي يصلونها ـ ما لبثت أن اندثرت ليبقى بمفرده يردد ما أريد له ترديده، وفي خطوة لافتة بشناعتها استدار المعني ليطلق الصيحات الداعية إلى العنف الطائفي وإلى تطهير المدن الرئيسية في سوريا من أحد مكونات الشعب السوري ويلوح بأن صيحاته إنما لها دعم أمريكي، كل ذلك دون أن تتبرأ الإدارة الأمريكية منه ومن أقواله، مع العلم أن رموز أمريكية بثقل كبير لم تتأخر في أكثر من مناسبة لتلمح بدعمه ـ كما حصل بعد أن طافت التصريحات والمقابلات والاتهامات (في صحيفة الديار على سبيل المثال) عند اختلاف الموما إليه مع بعض من أعضاء “المجلس الوطني السوري” في الولايات المتحدة، ما دفع بريتشارد بيرل حينها ليعطي مقابلة لصحيفة الشرق الأوسط يشير بها ما يوحي، بشكل ما، بالتبني الأمريكي لذلك الشخص.
كذلك، لم يعد هناك من يستطيع الجزم، أو حتى القول، إن الحملة التي تقودها أمريكا تستهدف الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة أو محاربة الإرهاب، وربما يكون ما نطق به طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، والحليف الأكثر قرباً من غيره للرئيس بوش وللإدارة الأمريكية هو الأدق في وصف ما يجري عندما قال مرة للصحفيين وبانفعال واضح ـ بعد عودته لبريطانيا في واحدة من زياراته العديدة التي عقبت 11 سبتمبر للولايات المتحدة ـ على الحكام العرب أن يفهموا أن ما تفعله أمريكا وبريطانيا هو لحمايتهم من خطر الإرهابيين، ونطق أيضاً للصحفيين بما يحكي الكثير عن السياسة العالمية باتجاه “الشرق الأوسط الجديد” المراد حيث تفوه بما يفهم منه أنه بموقفه بهذا الشكل إلى جانب الرئيس الأمريكي إنما يضمن نصيب بلاده ومكانها في العالم الجديد الذي ترسمه أمريكا. في الواقع، باستثناء النظام العراقي، لم تستهدف الإدارة الأمريكية أي نظام آخر في المنطقة، بل إن ما تسلكه يشير إلى العكس تماماً فما عرف مبكراً بعد هجمات 11 سبتمبر ـ عندما كان صناع القرار الأمريكي يرغون ويزبدون ويتوعدون الأنظمة التي تحكم البلدان التي جاء منها الإرهابيون ـ يشير إلى حرص الإدارة على حكام المنطقة العربية وامتداداتهم، فقد امتلأت حينها طائرة أمريكية بمن يقرب من الأسرة الحاكمة في السعودية المتواجدين في الولايات لتنقلهم بأمان وسلام إلى المملكة السعودية بينما كان السعودي العادي ـ أو أي عربي آخر(الطالب أو الزائر أو السائح) في الولايات يتعرض للتمييز والاعتقال ولأكبر الإهانات لأنه أصبح متهماً بحكم عوامل عدة أهمها خلفيته الجغرافية؛ يضاف أكثر من مثال، إلى السلسلة التي يتناقض بها القول الأمريكي مع الفعل ويتكسر زعم هدف دمقرطة المنطقة العربية، منها النظام الليبي ورمزه القذافي الذي لم تتغير سياسته الداخلية تجاه الشعب الليبي بينما انتقل تصنيف نظامه “عالمياً” من “الإرهابي” و”الدموي” و”الكلب المسعور”، إلخ.. ليصبح “الرجل القادم من البرد” والذي “يمكن الشروع ببزنس معه” فتهافتت الوفود الأمريكية (والأوربية بأعلى المستويات) إلى خيمة “رجل الدولة” القذافي لإبرام الاتفاقيات وعقد الصفقات بالمليارات وتشجعت الدول الأوربية لتمد له البساط الأحمر في أكثر من مكان. وأما هدف “محاربة الإرهاب” فبات في أعين الجميع ذريعة جوفاء ليس لها من ترجمة حقيقية على أرض الواقع، ومنذ مدة غير قصيرة ظهر التناقض الأغرب في السياسة الأمريكية على هذا الصعيد حيث أن الولايات المتحدة بسياستها حيال المنطقة ودعمها لأطراف معينة ولأنظمة معينة إنما تدعم بشكل أو بآخر نفس الجماعات الإسلامية التي تدعي محاربتها ـ كما وضح الصحافي سيمور هيرش الذي خرج بتقريره الشهير الطويل المفصل والذي كلف الكثير من البحث والمعلومات والتوثيق.
تبقى علاقة الإدارة الأمريكية بالنظام السوري هي الأكثر لفتاً للانتباه وإثارة للجدل من حيث التناقض الواضح بين القول والفعل. في الماضي القريب أدرجت الولايات المتحدة اسم سوريا (المختزل في الأحوال العادية بالنظام السوري) على قائمة الدول التي “ترعى الإرهاب” بينما كانت العلاقات الاستخباراتية مع النظام السوري مستمرة وتدور بالسر وراء الكواليس ولم تتزعزع كلياً هذه العلاقة وسط أي ظرف كان ولا في “عالم ما بعد 11 سبتمبر”، وما هي قضية ماهر عرار، الكندي من أصل سوري، الذي سلمته الولايات المتحدة للنظام السوري للتعذيب من أجل انتزاع المعلومات منه، إلا بالمجسدة للمفارقات والتناقضات الأمريكية بعلاقتها مع النظام المذكور إذ ـ وكما ذكّرنا مؤخراً روبرت فيسك في صحيفة الاندبندنت ـ كيف يمكن توصيف أو تفسير التعاون مع، والاعتماد على، نظام يصنف بأنه إرهابي أو يدعم الإرهاب!؟ وأما العديد من المثقفين والمعارضين السوريين، الذين يعرفون أن حكاية عرار ليست البداية ولا النهاية فيدركون أن الموقف الأمريكي من النظام السوري يتأطر ضمن شروط تحددها المصالح الأمريكية بالدرجة الأولى، فإن كل ما أعلنت عنه الولايات المتحدة من إجراءات في السنوات القليلة الأخيرة(كقانون محاسبة سوريا، سحب السفيرة الأمريكية من دمشق، تجميد أرصدة بعض الأفراد المحددين من النظام السوري، وغير..) لم تكن إلا لتأخذ بالحسبان عدم تقويض العلاقات الاستخباراتية بين الجانبين فيما لو ذهبت العقوبات بعيداً أو أن تؤثر على بعض العلاقات التجارية (واشنطن بوست 12 آذار 2004) وهي ليست بالإجراءات التي تعض النظام السوري حقاً لأن النظام السوري ليس له طابع نظام دولة مؤسسات وإنما نظام أسرة حاكمة وحلفائها، بل ويذهب عدد غير قليل من المثقفين إلى وصف القرارات الأمريكية بتجميد أرصدة مسؤولين سوريين أو فرض عقوبات مالية أمريكية عليهم بـ”التهريج” لأن هؤلاء المعنيين ببساطة ليست لديهم أرصدة مالية في بنوك أمريكية.. ولو أراد الأمريكان فعلاً محاسبة النظام السوري بشكل واضح لصدرت لائحة أسماء تشتمل على أسماء ونماذج تعاقبها أمريكا وتجمد أرصدتها مثل، وليس حصراً، آل الأسد وفي مقدمتهم بشار وماهر وصهرهم آصف شوكت وقريبهم رامي مخلوف ومصطفى طلاس وأولاده والامتدادات العائلية لهؤلاء، ومن جهة أخرى لكانت اللائحة الأمريكية تحتوي على ما لايقل عن مائتي اسم من كبار رموز النظام السوري ومقربيهم المباشرين من دبلوماسيين وأعوان تجمد أموالهم ويمنعون من حرية الحركة (مع ما يعنيه ذلك على الصعيد العالمي). يتساءل السوري العادي أية عقوبات هذه التي نسمع بها وآصف شوكت زار سراً أمريكا (وأوربا) ـ لأسباب مجهولة ـ أكثر من مرة؟ أو كيف سيفهم السوري أن صناع القرار في أمريكا معنيين بالمظالم التي وقعت وتقع على الشعب السوري وحكمت الشهابي، أحد حواشي حافظ الأسد وذراعاً له لفترة طويلة، ورئيس الأركان السابق وأحد الذين كدسوا الأموال لحساباتهم الخاصة بعد تفقير الشعب السوري وسرقته، يعيش في أمريكا ويتلاعب وذريته بأموال الشعب السوري!؟ فقط عندما يرى السوري العادي أن إجراءات حقيقية تعض النظام السوري تتخذها الولايات المتحدة سيفكر وقتها أن أمريكا تأخذ بحسبانها مصلحة العشرين مليون سوري ـ والتي هي ليست مصلحة نظام أسرة حاكمة وحلفائها ـ (بنفس الوقت الذي تفكر فيه بمصالحها). بيد أن كل شيء، وللأسف، يشير أنه لن يكون في المستقبل ما يوحي بأخذ مصالح الشعب السوري بعين الاعتبار، وأنه حتى في ظل تغييرات ـ إن حصلت ـ يزاح بها هذا الرمز أو ذاك من القائمين على النظام السوري فلن يخرج التعامل الأمريكي (والأوربي) عن دائرة العلاقة مع امتدادات النظام الحالي وحلفائه وذريتهم وأولاد أعمامهم وأخوالهم الذين يقيمون بالأساس العلاقات “الطبيعية” مع رأس المال العالمي بدون النظر، وبتناس، للماضي والحاضر وما يحصل به من استبداد واستغلال وممارسة النفوذ والسلطة لتكديس الأموال على حساب فقر، بؤس، حرمان، ومن دم الشعب السوري.
نجاة النظام السوري تعتمد على مجموعة عوامل ـ سندع معظمها جانباً هنا ـ لنتوقف عند واحد يتلخص بمقدرته على تسويق نفسه خارجياً بتناغم مع المناخ السياسي العالمي. إبان الغضب الأمريكي عقب 11 سبتمبر ـ كما ذكرنا سابقاً ـ تسارعت تصريحات المسؤولين السوريين عن “الإرهاب الإسلامي” الذي “عانوا منه” قبل غيرهم، إلا أن السؤال الذي لايتعثر أحد بالإجابة عنه يبقى عما إذا كان النظام السوري، ولمدة ليست بالقصيرة، إلا بالمستثمر في نشاطات المنظمات الإسلامية. في الواقع، كان، وما زال، النظام السوري على صلة وثيقة ببعض من هذه المنظمات، لا بل ويرعاها. بعد الغزو الأمريكي للعراق اتسم موقف النظام السوري باللعب والمراوغة والاعتماد على عامل الزمن للنجاة، ففي الوقت الذي كان يتباهى به رأس النظام للصحفيين الأمريكيين أن للتعاون السوري والمعلومات السورية الموضوعة في الخدمة الفضل في حماية أرواح الجنود الأمريكيين في العراق، كان لا يخفى على أحد، لا في سوريا ولا في العراق ولا في العالم، كيف كان المسؤولون الاستخباراتيون السوريون يقومون بتدريب ومن ثم رعاية دخول من هب ودب إلى العراق. ونقل عن أحد المسؤولين بعد اجتماع على مستوى القيادة قوله المترافق بضحكة المنتصر الزاهية أن الحكمة تقتضي تنظيم ورعاية دخول الإسلاميين إلى العراق لأنهم من جهة يخلقون مشكلة للأمريكيين، ولتقتلهم أمريكا نيابة عنا من جهة ثانية.. (ناهيك عما عاد به الأمر من أرباح مالية أيضاً لكبار ضباط المخابرات السورية). وبهذا الصدد نتذكر أبو القعقاع، رجل الدين الذي اغتيل مؤخراً، وعلاقته بالنظام السوري ودوره في الشحن الأيديولوجي الديني للقتال لمن كان يتم إدخالهم إلى العراق، ونضيف أنه من البديهي أن يقتل الرجل، وفي “ظروف غامضة”، مادام في صدره من معلومات لها ما لها من أهمية عن لعب النظام السوري في العراق، ولو بقي حياً لتساءل العديد منا باستغراب عن التغييرات في نهج وقواعد عمل النظام السوري.
ربما تبدي الأوساط الأمريكية اهتماماً بما يقدمه النظام السوري من معلومات استخباراتية عن هذه المنظمة الإسلامية أو تلك، ولكنها تتجاهل بنفس الوقت الماكيافيلية المفرطة في آليات عمل النظام السوري وهندسته لمجموعات إسلامية يستطيع ضبطها أو إطلاقها وتوجيه عملها بطريقة ما للقيام بأدوار مختلفة حسب الضرورة ووفقاً لمتطلباته. لعل في المدارس الدينية التي وصل عددها للأربعمائة، والمجمعات الدينية الكبيرة كمجمع النور والمجمع الآخر الذي يشيد في حلب، وانتشار القبيسيات الفطري، والتي تعد (في دمشق وحدها بعشرات الآلاف) المثال على إنشاء ورعاية وحماية النظام للمجموعات التي يستخدمها بشكل مباشر أو غير مباشر عند الضرورة، ونتائج نهج هؤلاء أصبحت واضحة التغلغل في بنية المجتمع وتتمظهر بالتدخل السافر في كبائر وصغائر الأمور التي تخرج عن الأطر الدينية متجاوزة إلى الاجتماعية (وكذلك السياسية مادام الأمر لايهدد السلطة. في الحقيقة، يفرح كل من الفريقين (الإسلامي والسلطوي) بما لديه في ظل الشكل التوافقي السائد بينهما، فالمجموعات الإسلامية فرحة بما تحققه من إنجازات لا تنحصر في تسويد الأيديولوجيا الدينية في بلد تحكمه سلطة تدعي “العلمانية” بل تتعداها إلى ما فيه أبعاد اجتماعية تغيّر جذرياً في البنية الثقافية الاجتماعية للبلد، وكذلك السلطة مقتنعة بهذا الأداء مادام ضمن السقف المرسوم وبالشكل الذي لايزعزع من سلطتها. ومن المعروف أن ضباط المخابرات في سوريا يستدعون بين الحين والآخر رجل الدين هذا أو ذاك من المجموعات المذكورة ويتعاملون معه بمنتهى الودية وبتأكيد أن عمله ومجموعته “وطني” و”شريف” و”مطمئن” لهم (أي للمخابرات). لايغيب عن العارفين بكيفية عمل المخابرات في سوريا أن لقاءهم برجال الدين إنما يهدف إلى أكثر من غرض بينها تذكيرهم أن عمل الإسلاميين ليس بالبعيد عن أعين الأمن ومراقبته (كي لاتسول نفس أحد اللعب بالخفاء) وأما النقطة الثانية التي لاتقل أهمية عن الأولى فهي استثمار المخابرات في رجال الدين حين يرمون لهم بـ “علكة” ليمضغون بها من منابرهم العامة في الجوامع وفي جلساتهم الخاصة مع المقربين. وكمثال على ذلك ما نقل من أن أحد ضباط المخابرات رمى بعبارات أمام رجل دين يقول بها إنه في ظل “الهجمة الشرسة” التي تستهدف “ديننا” و”هويتنا” أصبح “الشهيد” بنظر “الغرب الصليبي” انتحارياً وعلينا أن نوضح الفرق بين “الشهادة” و”الانتحار”. وبالفعل، فقد ظهرت نتائج ما أراده ضابط المخابرات حيث نقل أن سجال “رجل الدين” المعني في شرح أهمية “الشهادة” وقيمة “الشهيد” امتد لفترة طويلة (طبعاً دون أن ينسى الدعاء والشكر والمديح لبشار الأسد في الجوامع…). يبقى أن نتساءل والحال هكذا، وفي ظل أيديولوجيا سائدة هي عصارة تزاوج ـ غير معلن رسمياً ـ بين الإسلاميين والنظام السوري، هل هناك من يستغرب أن يكون الشباب ضحايا تائهة طريقها تردد كالببغاوات أن هدفها هو الشهادة!؟ وفي الحقيقة، إنّ هؤلاء الشباب ضحايا ومعظمهم لايعرفون أنهم كذلك، ولو طلبت منهم أن يفتحوا أعينهم على ماحولهم، أو سألتهم لماذا يتوقون إلى الموت بدلاً من التطلع إلى الحياة لتوقفوا برهة قصيرة يعجزون بها عن استدرار الجواب المقنع ليعودوا إلى الديماغوجية التي تعلموها عن “الفضائل” المزعومة التي تجعلهم يتطلعون نحو الشهادة الموت، أي شهادة كانت، ويفضلون الموت على الحياة. يمكننا، في الواقع، استخدام تشبيه وضع هؤلاء في سوريا كخرطوم غاز يشتعل في نهايته لهب خافت، يقوى اللهب ويضعف بصمام تتحكم به يد حامله، فقد يفتح مرة حامل الخرطوم الصمام ليسرب الغاز الكافي للحرق المنضبط (كما حصل عند الهجوم على، وحرق، السفارتين الدنماركية والنرويجية بدمشق بعد قصة الرسوم الكاريكاتيرية المعروفة) وقد يفتح بقوة وبشكل يصعب بعدها ضبطه ويصعب التكهن بما ومن قد يحرق أو الامتدادات التي يصلها. خلاصة القول هي أن المصب الأخير للأيديولوجيا الدينية المتنامية منذ فترة غير وجيزة بالإشراف المغرض للنظام السوري تتنافى وزعمه حول الموقف من الإسلام السياسي، وبنفس الوقت يختلف بل ويتناقض تجييرها كلياً مع المسعى الأمريكي لكسب عقل وقلب أناس المنطقة.
بمقابل تشجيع النظام السوري للمجموعات الدينية ورعايتها نجده يقمع بضراوة كل صوت ديمقراطي مهما كان خافتاً، ويخمد كل صوت يحتج على الظلم وينشد سلمياً أن تعيش بواقع يتناسب وزماننا، وما زج الناس في السجون (عارف دليلة، كمال اللبواني، أنور البني، ميشيل كيلو، و…إلخ على مدى السنوات السابقة وما جرى مؤخراً من اعتقالات لأكرم البني، علي العبد الله، فايز سارة وغيرهم.. (والذهاب أبعد هذه المرة بسجن فداء الحوراني) إلا أوضح الأدلة على أين يسير النظام بسوريا وماذا يريد بها.
في ظل هذا الواقع، بقي أن نتذكر مرة أخرى السؤال الذي طرح من قبل، في العالم عموماً وفي أمريكا ما بعد 11 سبتمبر خصوصاً، عما هو الأثمن للولايات المتحدة الأمريكية في سياستها في المنطقة، أهو السكوت على الأنظمة الديكتاتورية المستبدة بشعوبها إذا كان ذلك هو المريح لأمريكا في مرحلة ما أو لظرف سياسي بغية الحصول على معلومات استخباراتية عن الإرهابيين تفيد في مكان أو زمان ما، أم هي سياسة مناصرة قضايا حقوق الإنسان والأخذ بعين الاعتبار المظالم التي تقع على الشعوب في بلدان المنطقة (ومنها سوريا)، كضمان وحيد لتجفيف “منابع الإرهاب”!؟
بالطبع عندما نذكر أمريكا فإننا نميز كسوريين التشعب ما بين منظمات مجتمع مدني وشعب أمريكي لا يستطيع من يعرفه أن يتجاهل السلوك الإنساني والخصال التي تزينه ـ دون أن ننسى ماله من هموم ـ وما بين إدارة أمريكية تتحرك وفقاً لمصالح واستراتيجيات من الصعب أن تتقاطع مع مساعينا أو أهدافنا، إدارة تدفعها مصالحها اليوم لأن تدعم هذا الديكتاتور أو ذاك وتقضي عليه في اليوم التالي (بينوشيت، صدام حسين…إلخ). ولكن، ما بين دعم الدكتاتور اليوم وضربه غداً هناك قصص تطفح وتفيض بمظالم شعوب، بدموع ودماء وتشرد وموت.. لايوجد ما، أو من، يعوضها أو يرد بعضاً منها إلى من وقعت عليه، وخلاصتها أحقاد.. ويبتعد عن الدقة من يظن أن ذاكرة الشعوب دائماً قصيرة. هذا لايعني بالطبع أننا نطلب من الإدارة الأمريكية أن تخوض حربنا مع النظام الحاكم في سوريا، لكننا نوضح أنه لم ينتابنا مرة الشعور بأن الولايات المتحدة الأمريكية جدية في الاستغناء عن خدمات النظام السوري، أو أنها أعطت قضايا حقوق الإنسان في سوريا (والتزام النظام السوري بالمواثيق الدولية بالخصوص نفسه والتي وقعت عليها سوريا) الأولوية في تعاملها مع النظام السوري..حتى ولو ورد اسم هذا السجين السوري أو ذاك أكثر من مرة على لسان الرئيس الأمريكي. ومن ناحية أخرى، ستبقى ذريعة النظام السوري في انتهاك حقوق الإنسان قائمة مادامت قضية الصراع الرئيسية في المنطقة (وكل ما نجم عنها من صراعات) بمنأى عن الحل. من سخرية الواقع الجديرة بأن نختم بها هي أن يجزم الكثير من المثقفين العرب في وصف كل إدارة أمريكية عند انتهاء ولايتها بأنها كانت “الأسوأ” بموقفها من الشعوب العربية وقضاياها، فيقال ما معناه أنه لم ولن يمر إدارة مثلها في تاريخ الولايات المتحدة، ثم لا يلبثوا أن يروا بعضاً من مزايا حسن السلف بالمقارنة مع مرارة ما يرونه من الخلف ومن ثم يرددون نفس الوصف لآخر إدارة ترحل. وهكذا تتكرر مشاهد شعور أبناء المنطقة العربية عموماً بالغبن والظلم نتيجة تضافر عوامل جعلته أسيراً، لأجل غير محدد النهاية، في سجن لعب الأنظمة الحاكمة في المنطقة ومصالح الدول الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
(1)مقارنة تجارة سوريا الخارجية (بألف ليرة سورية) بين1946 – 48
الدولة استيراد تصدير عام
الولايات المتحدة 48.609 14.978
1946
بريطانيا 47.947 2.265
فرنسا 17.715 16.890
الولايات المتحدة 97.434 5.719
1947
بريطانيا 65.600 1.209
فرنسا 40.133 5.089
الولايات المتحدة 91.434 3.415
1948
بريطانيا 94.856 1.429
فرنسا 55.939 9.112
يعود تاريخ العلاقات التجارية السورية الأمريكية، في الواقع، بحسب ما يرد في المصادر إلى بداية القرن العشرين، فعلى سبيل المثال ذكر مايكل ميشاكا نائب القنصل الأمريكي في دمشق (في الفترة مابين 1870 – 1914) أن
أن صادرات دمشق إلى الولايات المتحدة بلغت قيمتها 172071.66 ألف دولار أمريكي ، اشتملت على نحاس و مشغولات نحاسية و منسوجات وأثاث و صوف وبسط و زبيب و مشمش مجفف وأغلفة سجق..
” انظر A Brief History of U.S. – Syrian Relations (http://damascus.usembassy.gov/history.html
saidabugannam@yahoo.com