بدعوة كريمة من رئيس تحرير جريدة «المصري اليوم» الأستاذ مجدي الجلاد لكتابة مقالات، الغاية منها فهم الأحداث الجارية «فلسفياً»، ورد إلى ذهني الفيلسوف الإسلامي العظيم «ابن رشد». كان حياً في الغرب ولم يكن كذلك في الشرق، وهذا ما سميته «مفارقة ابن رشد».
والسؤال إذن: لماذا ورد إلي ذهني ابن رشد؟
لثلاثة أسباب:
السبب الأول قوله المأثور في كتابه المعنون «فصل المقال»: «لا يقطع بكفر مَنْْ خرق الإجماع في التأويل»، ومعنى هذا القول أنه لا تكفير مع التأويل ولا إجماع مع التأويل، وكان يعني ابن رشد بالتأويل إعمال العقل في النص الديني من أجل الكشف عن المعنى الخفي، الأمر الذي يفضي إلى تعدد التأويلات، وبالتالي إلى مشروعية هذه التأويلات.
والسبب الثاني: قوله المأثور في كتابه «تهافت التهافت»: «فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل»، ومعنى هذا القول أنك عندما تريد البحث عن سبب حادث ما، فعليك البحث عنه تحت مظلة العقل وليس تحت أي مظلة أخرى، وإلا تكون قد خلعت العقل، وشغلت مكانه بكل ما هو مضاد للعقل.
والسبب الثالث، أن هذين القولين وما شابههما من أقوال قد أديا إلى اتهامه بالكفر والزندقة والإلحاد، وقد تبع هذا الاتهام حرق مؤلفاته ونفيه إلى أليسانه بإسبانيا. ومن يومها والفلسفة في الشرق الأوسط مطاردة، والعقل في حالة غيبوبة.
.. والسؤال إذن: ما العمل؟
إيقاظ العقل.. ومن لزوم إيقاظ العقل إيقاظ الفلسفة، ومنهما معاً يكون لدينا عقل فلسفي، إذن علينا تدريب عقولنا على أن تكون كذلك، ومن ثم تتحقق الغاية من كتابة المقالات المقبلة.
قد يقال إن ثمة عائقاً أمام إحداث هذا التدريب بحكم ما واجهته الفلسفة من تشويه، إذ هي متهمة بإفساد عقول البشر، وذلك بإخراجهم عما هو مألوف أو عما هو ثابت أو عما هو مشروع.
.. والسؤال إذن: كيف نعيد الفلسفة إلى العقل؟
أو بالأدق:
كيف نوقظ العقل بالفلسفة؟
للإجابة عن هذا السؤال أذكر حادثتين. الحادثة الأولى عندما كنت أنظم مؤتمراً فلسفياً دولياً في القاهرة في عام ١٩٧٨، وكان يوسف السباعي رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام. طلبت منه مساندة معنوية ومادية، فرفض الاستجابة لمطلبي، وجاءت حجته على النحو التالي:
كيف أدعم مؤتمرك وأنت توظف الفلسفة لإحداث انقلاب في نظام الحكم؟
صحيح، أنني كنت أوظف الفلسفة سياسياً عندما كنت مسؤولاً عن «ملحق الفلسفة والعلم» الذي كان يصدر في مجلة «الطليعة»، وصحيح أنني كنت ناقداً – بلا تحفظ – للعلاقة العضوية التي بزغت في عهد الرئيس السادات بين ما أطلقتُ عليه مصطلح «الرأسمالية الطفيلية» التي كانت تتاجر في غير المشروع، ومن ثم تنمو سرطانياً، وما أطلقتُ عليه «الأصولية الدينية» التي ترفض إعمال العقل في النص الديني، وتأخذ بحرفيته وتقيس بها سلامة أي نظرية علمية، وصحيح أنني أرتأيت وقتها أن من شأن هذه العلاقة إحداث تفكك في النسق الاجتماعي يصعب منعه من الانزلاق نحو معاداة الحضارة الإنسانية، ولكن لم يكن من الصحيح أن هذا الذي كنت أفكر فيه وأكتبه، يمكن أن يحدث إنقلاباً في نظام الحكم. ولهذا لم أفاجأ عندما فصلني الرئيس السادات من الجامعة التي كنت أعمل فيها أستاذاً للفلسفة.
فقد وردت عبارة في تقرير مرفوع من أحد الأجهزة، أنني أخطر أستاذ على النظام في الجامعات المصرية. وأظن أن المسألة لم تكن على هذا المنوال الذي ورد في التقرير. كل ما في الأمر أن الفلسفة، في جوهرها، بحث عن جذور الأوهام التي تسكن عقولنا، فيمتنع التقدم ويسود التخلف.
فإذا أردنا التقدم فلنتفلسف، وإذا أردنا التخلف فلنتخذ الاتجاه المعاكس. ولا أدل على صحة ما أقول مما حدث في أوروبا في القرن السابع عشر. فقد أراد فيلسوفان – أحدهما إنجليزي هو “بيكون” والآخر فرنسي هو “ديكارت” – إخراج أوروبا من العصور الوسطي المظلمة، وضع كل منهما أسلوباً فلسفياً للتفكير، من أجل تحرير العقل الأوروبي من الأوهام، التي تسكنه. وأهم هذه الأوهام، الوهم الكامن في الألفاظ اللغوية. وهذه الألفاظ إما أنها تتحدث عن أشياء غير موجودة أو أشياء غامضة. وأظن أننا هنا – في الشرق – بارعون في ترديد مثل هذه الألفاظ. فإذا كان ذلك كذلك فلنتفلسف.
نقلا عن المصري اليوم
السادات فصلني بسبب تقرير وصفني بأنني أخطر رجل على النظام مع تقديري لمعاناة المثقفين حين يواجهون العسكر، ومع موافقتي الكاملة علي الدعوة النبيلة لممارسة التفلسف ؛ إلا أنني أود أن ألفت قارئ أستاذنا الكبير إلي حقيقة كون التأويل محض أداة بين أدوات عقلية كثيرة . غير أن المشكلة في هذه الأداة كونها سلاحا ذا حدين ، فبينما يمكن للمتفلسف أن يتخفى وراءها كي لا يصطدم بالغوغاء ، فانها – في ذات الوقت – تطيل فترة بقاء النصوص المتأبية علي النقد . وهي في الحالين إشارة إلي تجاوز التاريخ لتلك النصوص . وهذا برهان علي عجز تلك الأداة عن تحرير العقل… قراءة المزيد ..