الحراك “الربيعي” الذي تشهده الكويت، والذي بات يسير في وتيرة مطلبية واضحة، متأثرا بتطورات الربيع العربي، ومتجاوزا الأعراف السياسية الاجتماعية والقانونية المحلية، أصبح ضرورة في سياق مجاراة تطورات الحياة وفي ظل الدخول في اختبار سبل أفضل للعيش، حيث تقود هذا الحراك فئة الشباب، الساعية للاختيار بين طريقة الحياة ما قبل هذا الربيع وبين الحياة في إطاره وفيما بعده. فقد أثبتت تطورات الأحداث أن الحركة المطلبية السياسية في الكويت (وفي مختلف الدول العربية) في تصاعد، متخطية الكثير من الأطر الراهنة وبالذات الإطار القانوني الدستوري. فلم يعد هناك أي معنى لقياس هذا الحراك في ضوء تجاوزه لقوانين البلاد، ولم يبق معنى للسؤال: هل المطالب المنعوتة بـ”الإصلاحية” تتوافق مع الدستور؟ فوتيرة التحرك، وسرعته، ومطالبه الواقعية، وتوافقه مع المعايير السياسية والثقافية والحقوقية العالمية، التي تعيش في ظلها المجتمعات الحديثة في الوقت الراهن، باتت تحتم أن تكون الحركة هي الحصان، فيما القوانين الدستورية هي العربة التي تتبعه، تسير أينما سار الحصان في مسيرته الإصلاحية، لا العكس. فعدم توافق القوانين مع التغيّرات الإصلاحية يشير إلى أن القانون أصبح قديما ويحتاج إلى تغيير تفرضه تطورات المرحلة وإفرازاتها الربيعية.
إن من الميزات الكثيرة التي تتصف بها الكويت من حيث إدارة الحكم، ومن حيث العلاقة بين السلطة الحاكمة والشعب، هي ضيق الهوة السياسية والاجتماعية بين الحاكم والمحكوم، ووجود علاقة حميمية بين الطرفين. وكلّما ابتعدت السلطة عن التعاطي مع المطالب الإصلاحية، في ظل تطورات الربيع العربي، والربيع الكويتي، وكلما تم تجاهل الالتفات إلى تحقيق الإصلاحات وإجراء التغييرات، وسعت هذه الهوة، ما قد يؤدي إلى تهديد موقع هذه الميزة وصولا إلى فقدانها في المستقبل. فاتساع الهوة قد يكون مؤشرا لبدء “مشاكل” المرحلة الربيعية الجديدة، التي لابد من معالجتها وفق رؤى واقعية ومستقبلية لا من خلال التمسك بصورة الماضي العتيد.
إن الماضي السياسي والاجتماعي والدستوري الكويتي، منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كان متوافقا مع مرحلة تاريخية ذات ميزات خاصة، ومع ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية معينة، ولا أظن بأن ذلك يتوافق مع تطورات المرحلة الراهنة ولا مع أفق المستقبل. والبقاء في الماضي لا يمكن أن يحل مشاكل الحاضر. فالماضي الذي كان متوافقا مع الماضي، ليس بالضرورة أن يكون متوافقا مع الحاضر والمستقبل.
إن الربيع العربي لم يكن إلا حركة تحتوي أهدافا نابعة من القيم الحديثة، التي تسعى إلى تنظيم العلاقات في الحياة الراهنة. وفي هذا الإطار فإن الولاءات التي تشكلها الثقافة القديمة، كالولاء للقبيلة والطائفة والعائلة، والتي أظهرت نفسها بصورة سلبية في ظل بعض صور الديموقراطيات المنقوصة، قد أصابها شرخ كبير نتيجة للحركة الربيعية، كما باتت تنتهج طريق الاستبدال بولاءات جديدة عنوانها روح العصر الحديث المستندة إلى قيمه. وفي سبيل التركيز على ديمومة ولاء الشعب الكويتي لأسرة الحكم، بصورة سياسية واجتماعية، فإن مسؤولية ذلك تقع بالدرجة الأولى، وفي هذه المرحلة بالذات، على عاتق السلطة، من خلال احتضان الحركة المطلبية لا معاداتها أو عرقلة مطالبها. وكلّما تسارعت عملية الاحتضان أكدت السلطة أنها قادرة على احتضان القيم الحديثة ومستوعبة المطالب الربيعية.
فالثقافة الحديثة، التي تنبع منها قيم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان ودعوات الديموقراطية الحقيقية والتأكيد على العلمانية المستندة إلى الليبرالية، أصبحت هي العنوان الرئيسي للحركة الربيعية في ظل اختلاف بالتفاصيل، وأي معاداة أو مواجهة مع هذا العنوان ستكون من نتائجه فقدان السلطة للولاء الشعبي. فمن مصلحة أي نظام، ومن مقومات قوته واستمراره، أن يسير بالولاءات في داخل المجتمع للارتباط بالقيم الحديثة، لا الارتباط بتلك التي لا تتعارض مع الحياة الديموقراطية المنقوصة، كالولاء للأسرة أو القبيلة أو الطائفة. فالقيم الحديثة تسمو بالوطن والفرد وتجعلهما يتجاوزان الأطر الثقافية والمصلحية القديمة.
لابد هنا من الإشارة إلى أن ولاء الشعب للقيم الحديثة من شأنه أن يعالج العديد من المثالب السياسية والاجتماعية التي تقف حجر عثرة أمام تطور المجتمع. فهذا الولاء سيزيد كلما كانت السلطة راغبة في تقليص دورها المركزي في إدارة الحكم، إذ سيساهم ذلك في توزيع مصادر القوى، ويجعل المناصب، وبالذات السيادية، غير منحصرة في إطار الأسرة، ما قد يساهم في تقوية الدور الشعبي المسؤول في إدارة البلاد، وسيرفع من درجة المحاسبة والمراقبة الشعبية، وصولا إلى تطبيق أفضل للديموقراطية. كذلك، سيزيد الولاء للقيم الحديثة كلما كانت السلطة راغبة في تقوية دور مؤسسات المجتمع المدني وتهيئة الظروف لخلقها وانتشارها بعيدا عن صور الولاءات السياسية والاجتماعية وشروطها المصلحية الضيقة. كما أن دفاع السلطة عن المصالح الفردية في إطار مفهوم الحرية الفردية واحترام حقوق الإنسان، سيساهم في زيادة هذا الولاء. فالولاءات القديمة من شأنها أن تزيد سيطرة السلطة، أيّ سلطة، على الحريات الفردية. فالولاء للطائفة، على سبيل المثال، يعرقل حرية الفرد لنقد ممارسة طائفية معينة، ويعطّل حالة الإبداع التي تتجاوز الأطر الطبيعية للطائفة، ويمكن قياس ذلك أيضا على الأسرة أو القبيلة. إذاً، تتحمل السلطة المسؤولية السياسية والاجتماعية للمساهمة في تقوية ولاء الشعب للقيم الحديثة والحد من الولاءات القديمة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com