يظن البعض أن وجود “نسبة لا بأس بها” من الممارسة الديموقراطية في الكويت قد يقلل من فرص نجاح أي تحرك شعبي للمطالبة بالإصلاح السياسي، وأن ذلك من شأنه أن يُبعد المجتمع الكويتي عن سيناريو التظاهرات وعن ممارسة أي دور “ربيعي” أسوة “بالربيعيات” الخليجية والعربية. هذا البعض يعتقد أن نصف قرن من الممارسة الانتخابية، ومن وجود حريات نسبية، سياسية واجتماعية وثقافية – حتى لو أدى ذلك إلى فقدان التجربة الكويتية للأسس الرئيسية التي تستند إليها ممارسة الديموقراطية الحقيقية مما يؤثر سلبا في أصل الديموقراطية من خلال انتزاع روحها، إذ من شأن وجود تلك الأسس أن يساهم في ترسيخ الثقافة الديموقراطية بالمجتمع وجعلها قريبة من امتلاك صفة الديموقراطية “الحقيقية” لا “النسبية” – يعتقد هذا البعض أن تلك الممارسة كفيلة بأن تميّز الظروف السياسية للكويت عن ظروف باقي الدول التي تلفها نسمات “الربيع” أو تستعد لاستقبال تلك النسمات التي عادة ما تتحول إلى رياح عاصفة.
لكن هذا البعض يتعمّد، في تحليله للوضع الكويتي، عدم الالتفات إلى مؤثّرَين رئيسيين مرتبطين بأحداث “الربيع العربي” وبمطلب الديموقراطية النابع عنها: الأول هو العولمة التي باتت تقود الحياة ولا ترضى إلا بتغيّرها وتطوّرها، والثاني هو نوع الديموقراطية، أي “الحقيقية”، التي أصبحت مطلبا رئيسيا في حركة الشعوب المنتفضة، وهي تختلف جملة وتفصيلا عن الديموقراطية “النسبية”.
فالديموقراطية “الحقيقية”، هي التي تعتمد على الثقافة الديموقراطية من حيث تغلغلها في ثنايا حياة الأفراد وسلوكهم، والتي تتوفر فيها مقومات الممارسة المستندة إلى مبدأ حقوق الإنسان، حيث ترفض سيطرة الأطر الاجتماعية والثقافية التي تساهم في جعلها ناقصة، أو نسبية، أو تتساهل مع أي انتهاك لحقوق الإنسان، أو تعرقل ظهور نتائجها الحقيقية، فهي لا تسعى إلى تحقيق “الشكل” الديموقراطي على حساب “المحتوى”، بل تسعى إلى قطف الثمار النابعة من الممارسة التي لا تعرقلها “المحرمات” الاجتماعية و”المقدسات” الثقافية.
ومن أهم مميزات الديموقراطية الكويتية “النسبية”، أنها مرتبطة بدعائم وجود السلطة في الكويت وكيفية تثبيتها وحمايتها، كما أنها متعلقة بمزاج السلطة وما تحققه لها من مصالح سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وأي سير في عكس هذا الاتجاه ينظر إليه بأنه خلل في الديموقراطية وليس خللا في السلوك السياسي للسلطة، وعلى هذا الأساس هي تسير جنبا إلى جنب المصالح السلطوية، ولا تعير أي اهتمام أن تكون المخرجات حقيقية، والتي عادة ما تكون نابعة من الاستناد إلى الأسس الرئيسية للديموقراطية، أي الأسس التي لا تتعارض مع “المحرمات” الاجتماعية و”المقدسات” الثقافية.
فالسلطة بالكويت – على سبيل المثال – لا تساند الحراك الإصلاحي العربي الساعي إلى خلق ديموقراطيات واقعية وناشئة في المنطقة، هي مرتبطة بعلاقة “حميمية” مع الكثير من الأنظمة الدكتاتورية حفاظا على المصالح السلطوية التي تتخفى تحت عنوان المصالح الاستراتيجية والقومية، وتلك العلاقة تؤثر في صورة الديموقراطية في الكويت وتكشف عن وجهها القاصر المشوّه، لذلك من الطبيعي أن يسير الحراك التغييري العربي في الضد من المصالح السلطوية في الكويت لأن همّ السلطة هو وجودها واستمرارها ومصالحها، مثلما أن هم الأنظمة الدكتاتورية هو استمرارها ما دام أن الموقف بشأنها يساند مصالح السلطة في الكويت. لذلك، لا ترى السلطة أي مانع في الدفاع عن بقاء أنظمة دكتاتورية تعاني من عواصف التغيير الشعبية، حتى لو جاء ذلك في الضد من طموحات التغيير الساعية إلى زرع بذرة الحرية، أو جاء على حساب سقوط أعداد كبيرة من القتلى المدنيين. فالسلطة والحكومة ووسائل إعلام ومؤسسات مجتمع مدني كثيرة في الكويت تعارض الحراك العربي، ولا تساند إلا تلك التي تصب نتائجها في الإطار الذي يخدم مصالحها العليا، أي المصالح التي تحددها السلطة وما يندرج في إطارها. فلا يعقل أن يوصف النظام السياسي والاجتماعي في الكويت بأنه ديموقراطي فيما مواقف السلطة مساندة للدكتاتوريات ومناهضة للتغيرات الشعبية الهادفة إلى خلق وضع ديموقراطي ناشئ.
فلا يزال الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك نجما سياسيا وإعلاميا محبوبا لدى السلطة والحكومة وعند العديد من المؤسسات والشخصيات المنتمية إلى الحياة السياسية في الكويت، والتي تتمنى عودته إلى الحكم في أقرب فرصة من دون أن تقدم دليلا يدعم أمانيها ومن شأنه أن يخدم قراءتها للمصالح الكويتية، إلا الدفاع عن موقف مبارك المساند للكويت أثناء فترة الغزو العراقي، وهو في تقديري موقف يعبّر عن ماض، وأي طرح مجرَّد للماضي من دون ربطه بالواقع والمستقبل، من شأنه أن يعبّر عن قصور في القراءة السياسية، سواء ارتبط ذلك بالمصالح الكويتية، أو تعلق بدعم الحراك الشعبي التغييري، لذا قد يعتبر هذا الموقف دليلا على عدم اهتمام الكويت بطموحات الشعوب الهادفة إلى الإنفكاك من الدكتاتوريات والعيش بعيدا عن صور القهر وصولا إلى واقع ديموقراطي يبدو في صورته البعيدة حقيقيا. فلا يزال الرئيس السوري بشار الأسد ورموز سياسية من أسرته، عند أطراف في السلطة بالكويت وعند الكثير من نواب مجلس الأمة والشخصيات السياسية ولدى العديد من وسائل الإعلام، “أسد المقاومة” في وجه إسرائيل، ما يجب أن يبقى على رأس السلطة هو وحزبه البعثي، على الرغم من سقوط مئات القتلى من المدنيين السوريين برصاص الأمن السوري في الاحتجاجات السلمية الساعية إلى تغيير الحياة البائسة.
إن عدم الفصل بين مكونات أساسية تشكل الواقع السياسي والاجتماعي في الكويت وبين الدكتاتوريات العربية، سوف يخدم بالتأكيد طموحات الإصلاح السياسي في الكويت، وسوف يساهم في تحريك عجلة الحراك الشعبي الساعي إلى التغيير. فمن أجل تغيير الحياة السياسية في الكويت، من خلال تطوير الحياة الديموقراطية وتوجيه سكانها صوب تلك “الحقيقية”، كان على السلطة في الكويت أن تنظر بإيجابية إلى تطورات الحركة السياسية والاجتماعية العربية المتأثرة بالعولمة، بما يخدم الديموقراطية والإصلاح السياسي في البلاد، بدلا من التركيز على مصالحها السلطوية، إذ من شأن النظرة الثانية أن تشجّع من جهة على استمرار الدكتاتوريات، ومن جهة ثانية على عدم تطور الديموقراطية داخل الأطر العربية، ومن ضمنها في المجتمع الكويتي، وهو ما قد يشجع حركة التغيير الاجتماعي الداخلية. فمسؤولية السلطة في الكويت هو تشجيع المبادرات الساعية إلى تطوير الديموقراطية استنادا إلى تأثيرات العولمة وانطلاقا من التغيرات التي تحصل في الجوار العربي، والتي تحمل من العناوين الكثير، من أبرزها عنوان الديموقراطية “الحقيقية”، لا أن تبحث في كيفية الدفاع عن مصالحها السلطوية، والذي هو دفاع تغيرت وسائله في ظل ثورة المعلومات وفي إطار دعم الغرب للتوجهات الديموقراطية العربية الناشئة. فالمصالح الكويتية العليا يجب أن تلتقي مع ما يحدث من تطورات تغييرية عربية قد تخدم في النهاية مستقبل الديموقراطية في المنطقة، لا أن يكون الدور الكويتي سلبيا في هذا الإطار، فالتجربة الديموقراطية في الكويت ارتبطت بمجمل الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي الكويتي، ولابد من وجود استراتيجية كويتية تعزز الديموقراطية في الداخل وتشجع التجارب الخارجية، استنادا إلى أن الديموقراطية أصبحت جزءا لا يتجزأ من الواقع الكويتي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com