الكاتب الفلسطيني حسن خضر في حوار مع “الصباح الجديد”
حسن خضر كاتب فلسطيني، يُعنى بشؤون النقد الأدبي. ترأس تحرير مجلة الكرمل الجديد الثقافية، ويشتغل بالبحث في الثقافتين العربية والإسرائيلية، نشر كتباً ودراسات أصلية ومُترجمة في حقل تخصصه، ويواظب على كتابة مقالة أسبوعية في جريدة الأيام الفلسطينية.
حاوره: كفاح هادي
(الإسلام هو الحل ) شعار طالما ردده الإسلاميون، ترى هل ينطوي هذا الشعار على مواجهة بين الإسلام والحداثة؟
– الرد على الأسئلة، في حالات كثيرة، يستدعي طرح أسئلة تُسهم في العثور على أكثر من إجابة محتملة. إذا فكّرنا في شعار: “الإسلام هو الحل”، نسأل: ما المقصود بالإسلام؟ النص أم الثقافة؟ هذان أمران مختلفان. فالنص مُقدّس ولا يتغيّر، أما الثقافة فما نجم عن دوران شِفرات غير مرئية لخلاّط تاريخي هائل، تفاعلت فيه واختلطت اثنيات وثقافات وسياسات، من تجليات في العمارة والفنون والآداب وأنماط العيش والتفكير والتبادل والعلاقات، ونُظم الحكم، والتشريع، على مدار حقبة طويلة من الزمن. وهذه متغيّرة، وقد حكمت حضور النص المُقدس فيها مفاوضات دائمة بين الديني والدنيوي.
النص صامت لا ينطق إلا بألسنة الرجال، وفي كل نطق تأويل استدعته، في هذه الحقبة التاريخية أو تلك، خصوصية العلاقة بين السلطة والمعرفة من ناحية، وضرورات وإكراهات السياسة والسوق من ناحية ثانية. ولعل في هذا ما يُفسّر تعددية المذاهب والمدارس الفقهية في الحقل الديني، صراعات تقنّعت بقناع الدين، أيضاً. ففي الماضي، كما في الحاضر، وفي الشرق كما في الغرب، إذا استعر صراع بين طرفين يعتمدان النص المقدّس نفسه، اتهم كلاهما الآخر بسوء التأويل. وفي الحالتين تقتضي الخبرة التاريخية تفسير الصراع بالسياسة ولغتها، لا بالدين، ومنظومته اللغوية والمعرفية. لذا، في تحويل الدين إلى خارطة طريق للسياسة ما ينطوي على جهل أو تجاهل لتاريخ الدين نفسه، وعلى تبسيط مخل لمفهوم السياسة.
ولنفكّر في “هو الحل”. حل ُماذا؟
مشكلة التبادل اللامتكافئ في الاقتصاد العالمي، الأزمة المالية العالمية، نضوب الموارد، التلوّث الإشعاعي، المناخ والاحتباس الحراري، فيروسات الإيدز وجنون البقر وأنفلونزا الطيور؟ هذه مشكلات تتجاوز حدود الدول والقوميات والثقافات، وتتجاوز قدرة التأويلات المحتملة للنص الديني على الحل.
وماذا عن مفهوم الدولة، والدستور، والمواطنة، والأحزاب والانتخابات، وتبادل السلطة، والتعددية الثقافية والسياسية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، والحريات الفردية والعامة، بما فيها حرية التعبير والمعتقد؟ ماذا عن المساواة أمام القانون بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو اللون أو العرق، التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
– هذه كلها مفاهيم حديثة وكونية، وتمثل ميراثاً مشتركاً لكل بني البشر. وبقدر ما يتعلّق الأمر بما يُعرف اليوم بالعالم العربي، فإن دخوله إلى الأزمنة الحديثة فُرض عليه من خارجه، وبرغم أنفه، في زمن التوّسع الاستعماري الغربي، وهذا مصدر علاقته المأزومة والمُلتبسة بنفسه وبالغرب والحداثة في آن. لم تكن الكولونيالية، ولا الحداثة، مؤامرة من أحد على أحد، بل حكمت هذه وتلك ضرورات وإكراهات الجغرافيا السياسية، والصراع على الموارد، والثورتان التوأم الصناعية والعلمية، ونشوء القوميات ودولها.
وهل يُفسّر هذا إرجاع العديد من الكتاب والمشتغلين بقضايا الفكر ما نعانيه اليوم من كوارث بنيوية واقتصادية وسياسية إلى المستعمر والمستشرقين، وهل يصح ذلك؟
– فيما تقدّم نعثر على الحاضنة التي نبتت فيها ذهنية ونظرية المؤامرة، والآليات النفسية والثقافية والسياسية التي ولّدها الإحساس بالانسحاق الحضاري والإنساني والعسكري أمام الغرب. وهذا ما أحبط كل محاولة للإصلاح السياسي والديني كشرط لدخول الأزمنة الحديثة. فنظرية المؤامرة تُعفي الأنا العربي والإسلامي من المسؤولية عن الهزيمة التاريخية، وتفترض أن العرب والمسلمين ضحايا، مع ما ينطوي عليه أمر كهذا من تحريض، وكراهية للآخر، ورغبة في الانتقام، والتمركز المرضي على الذات. والمفارقة أن هذا كله يحدث في ظل افتنان وكراهية.
وربما جاز الاستطراد في هذا السياق بالعودة إلى العمل الكلاسيكي لإدوارد سعيد “الاستشراق”. فهذا العمل، وصاحبه، ينتميان إلى التقليد الثقافي الغربي، الذي يُعد النقد الذاتي، ومساءلة السائد من الأفكار، من مكوّناته الرئيسة.
لم تكن المحاولة السعيدية دفاعاً عن الإسلام، ولا كانت تأريخاً للاستشراق، بل كانت تمريناً بأدوات النقد الأدبي في تفكيك العلاقة بين المعرفة والسلطة والخطاب، لا يزعم صاحبه الإحاطة بالموضوع من كل جوانبه، فالاستشراق الألماني، مثلاً، لم يحتل مكانة خاصة في الكتاب، وآراء المستشرقين التي تناولها بالنقد والتحليل لا تختزل كل نتاجهم، بل تغطي جانباً يتعلّق بكيفية توظيف المعرفة لأغراض سياسية، وكيف أن الرغبة في تحقيق أمر كهذا، وفي سياق المركزية الأوروبية، والإحساس بالتفوّق الحضاري، يمكن أن يخلقا واقعاً مُتخيّلاً لا يتطابق، بالضرورة، مع الواقع الحي والمُعاش على الأرض.
وأذكر، في هذا الصدد، ما سمعته من إدوارد سعيد، بصفة شخصية، حين ذكر في معرض سوء الفهم الذي ناله الكتاب في العالمين العربي والإسلامي، أن ترجمة لكتابه صدرت بالفارسية، وأضاف إليها المترجم فصلاً في مديح الثورة الإيرانية. كان إدوارد سعيد يرى نفسه فلسطينياُ وعربياً وأميركياً في آن. وكان يرى أن تعددية الهويات وثيقة الصلة بكينونة الإنسان الحي في الأزمنة الحديثة.
ثمة ما يبرر استعمال نقد “الاستشراق” السعيدي كوسيلة إيضاح لإنشاء ما أسماه حسن حنفي “بعلم الاستغراب”. وأعتقد أن جهداً كهذا يظل ناقصاً إذا اقتصر على دراسة وفهم ما هو الغرب، وتتجلى قيمته الحقيقية في دراسة وفهم كيف تجلى الغرب في أذهان العرب والمسلمين في الأزمنة الحديثة.
ويصعب بقدر ما أرى الأمر، على كل محاولة في اتجاه كهذا أن تتمكن من القبض على موضوعها بطريقة موضوعية من دون التفكير في التمركز العربي والإسلامي المضاد على الذات، وتأثير الإحساس بالانسحاق الحضاري والإنساني والعسكري أمام الغرب، وذهنية ونظرية المؤامرة، على العلاقة بين السلطة والمعرفة والخطاب في النسق الثقافي العربي والإسلامي على مدار قرنين من الزمن.
ألا يأخذنا هذا إلى ما يسمى بأزمة المثقف العربي تجاه قضايا البلدان العربية المصيرية؟
– لا أميل إلى تحميل تعبير المثقف أكثر مما يحتمل. في العالم العربي ثقافات لا ثقافة واحدة متجانسة، وفيه أيضاً مجتمعات متوازية حتى في المدينة الواحدة، فما أدراك بالدولة الواحدة، أو الدول ذات الخصائص المتقاربة في شمال أفريقيا، والهلال الخصيب، والجزيرة العربية. ولا تعدم كل هذه البنى الثقافية الصغيرة والفرعية والكبيرة وجود مثقفين ومنتجين ومستهلكين لثقافتها.
وعلى الرغم من حقيقة أن الثورة التكنولوجية خلقت للمرّة الأولى في التاريخ إمكانية صهر الثقافات المحلية الصغيرة في ثقافة أكبر، وعابرة للحدود السياسية، إلا أننا نتكلم هنا عن دينامية مزدوجة. فحظوظ الثقافة المدينية التي عرفتها القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وتونس حتى سبعينيات القرن العشرين، تبدو ضئيلة في سباق الاعمام والتوحيد والصهر، إذا ما قورنت بالثقافة الريفية والصحراوية، التي تمكنت من فرض نفسها تحت قناع الإسلام السياسي في سياق الطفرة النفطية، والزيادة الهائلة في عدد السكّان، وهجرة الريف إلى المدينة، والتحديث الاجتماعي المشوّه على يد أنظمة راديكالية تقدمية وقومية حكمها ريفيون قساة، وريّفوا حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
لذلك، المثقف العربي كائناً ما كان تعريفه: العلماني، الديمقراطي، القومي، اليساري، الليبرالي، يعيش في جزر مدينية معزولة ومحاصرة، ولا تتجلى أزمته في عجز أدواته المعرفية، أو ضعف صلته بالواقع، بل في تدني وظيفته ومكانته الاجتماعية، ومصادرة دوره التقليدي من جانب الفقهاء والدعاة، وما يُسمى اليوم بالإعلاميين و”خبراء” الفضائيات، “ومفكري التلفزيون” الذين يشتغلون في خدمة أنظمة تنفق عليهم، وإلى كل هؤلاء نضيف صعود ثقافة التسلية والاستهلاك السريع على حساب الممارسة النقدية، وعداء الأنظمة القائمة، وشرائح اجتماعية واسعة، لكل ما يزعزع بداهة السائد والمألوف.
وهل هذا يعني أننا نعيش اليوم حصاد حقبة الربيع العربي؟
– الربيع العربي أنبل وأفضل ظاهرة في تاريخ العالم العربي. فلنعد بالذاكرة إلى الأيام الخالدة في ميدان التحرير، في القاهرة، وشارع الحبيب بورقيبه، في تونس، عندما وحّد ملايين المتظاهرين نداء “الشعب يريد إسقاط النظام”، وعندما تسمّر الملايين في العالم العربي، والعالم، قبالة شاشات التلفزيون، وقد وحّدهم إحساس من يراقب حدثاً من عيار تاريخي كبير، وعندما شعر ما لا يحصى من الشبّان والشابات في بلدان عربية مختلفة أن ما يرونه على الشاشة بعيونهم وتخفق له قلوبهم، يمكن أن يحدث في بلادهم، أيضاً. لم يخرج هؤلاء دفاعاً عن الشريعة، أو العروبة، أو فلسطين، أو هذه الطائفة أو تلك، بل عن “الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية”.
الثوّرة المضادة نجحت، مؤقتاً في الأقل، في احتواء الربيع العربي. وبقدر ما أرى، ثمة الكثير من أوجه الشبه بين ربيعنا، وربيع الشعوب في أوروبا العام 1848. عاشت أوروبا آنذاك سلسلة ثورات على النظام القديم، وقد هزمت كلها. كان الدفاع عن الكنيسة، والتقاليد الاجتماعية والتراتبية الطبقية الراسخة، من أسلحة الثورة المضادة، التي قادها ما عرف في حينها بالحلف المُقدّس.
واتضح بعد مائة عام أن ما تحقق في أوروبا من ديمقراطية، وحقوق إنسان، ومواطنة، وحريّات، ودساتير وبرلمانات وأحزاب، وانتخابات، يعود في أصله إلى بذور غرستها ثورات العام 1848. هذا لا يعني، بالضرورة، أن على العالم العربي أن ينتظر مائة عام قبل الحصاد، بل يعني أن البذور التي غرسها الربيع العربي، وتجلّت في مطلب “الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية” لم ولن تذهب هدراً، فربيع الشعوب عملية تاريخية معقّدة لا تسير، بالضرورة، في خط صاعد أو مستقيم.
في العام 1848 تكلّم ماركس عن شبح يحوم في أوروبا ويقض مضاجع الحكّام. وفي مطلع العام 2011 لم يكن ثمة أكثر خطورة وإثارة للذعر في صحو ونوم الطبقات الحاكمة والسائدة في العالم العربي من شبح الشعب الذي يريد إسقاط النظام. وقد استعدت جيداً بمليارات الدولارات، والسلاح، والجيوش والميليشيات، والإعلام، للقضاء عليه، إما بحرب مفتوحة على الشعب كما حدث ويحدث في سورية، وكما حاول القذافي، أو بجراحة تجميلية للنظام كما حدث في مصر وتونس. وفي كل الأحوال لم يعد الربيع العربي، بعد النقلة الافتتاحية الأولى، شأناً محلياً في هذا البلد أو ذاك، بل أصبح شأنا إقليمياً ودولياً. وما نشهده اليوم من كوارث متلاحقة يُعد من حصاد الأقلمة والتدويل.
وماذا عن الأحزاب الإسلامية، هل مهّد وجودها لظهور داعش، وهل داعش موجود بالقوة أم في الإمكان ؟
– داعش هي النتيجة الموضوعية للقطيعة التاريخية ورفض حقيقة أن ما مكّن الديني والدنيوي من التعايش، سواء على مستوى الحياة اليومية للفرد، أو المجتمعات والكيانات الحضارية، نجم على مدار قرون، عن التفاوض. ولو لم تكن ثمة قابلية كهذه لدى الطرفين لفتك أحدهما بالآخر بدلاً من محاولة التأقلم معه. وقد جرت محاولات للفتك بالديني في زمن الثورة الفرنسية، وفي العهود الأولى لثورة البلاشفة الروس.
الدنيوي أكثر مرونة لأنه نسبي ومتغيّر، أما الديني فتفرض عليه ضرورات التفاوض إكراهات يصعب حلها من دون انشقاق يتجلى في صورة إصلاح ديني، أحياناً، كما حدث في الإصلاح البروتستانتي، الذي أعقبته حروب دموية، أو في حروب أهلية كما حدث في أوّل عهود الإسلام مع الانشقاق السني ـ الشيعي الكبير. وما تلاه من انشقاقات وحروب داخل المعسكرين الكبيرين، ما زالت أصداؤها تُسمع حتى الآن. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالنسق الثقافي والسياسي الغربي، فشل الديني في إخضاع الدنيوي في حروب القرنين السادس عشر والسابع عشر الدينية في أوروبا. ومن رحم الصراع وُلدت العلمانية الغربية. ومن رحمه، وذكرياته المريرة، وقع ما أشرنا إليه في الثورتين الفرنسية والبلشفية.
على خلفية ما تقدّم يمكن التفكير فيما كتبه الإسلامي المصري أمين هويدي في معرض التعليق على صعود الظاهرة الداعشية، التي رأى فيها ما يبرر الخوف على الإسلام نفسه.
ويمكن التفكير، أيضاً، في فرضية محمد أركون، الذي لم تمد الحياة في عمره، ليشهد الظاهرة الداعشية، ولكنه افترض أن مشكلة الإسلام السياسي مع الغرب والحداثة والعالم تمثل أكبر عملية للعلمنة في تاريخه. داعش هي أعلى مراحل الإسلام السياسي، والحرب التي أشعلتها لن تتوقف، حتى بعد القضاء على التنظيم المتوّحش، في وقت قريب.
لا يتسع المجال، هنا، للاستطراد في موضوع الإسلام السياسي، لكنه كان دائماً جزءاً من لعبة الأمم. حاول العثمانيون في آخر أيام السلطنة توظيف العصبية الإسلامية كسلاح في الحرب العالمية الأولى. بالمناسبة لم يسبق لأحد من سلاطين بني عثمان أن أدى فريضة الحج. وفي الحرب الباردة كان الإسلام السياسي سلاحاً لضمان السيطرة على مصادر الطاقة، والحيلولة دون وصول الروس إلى المياه الدافئة. وتجلى التوظيف الأمثل لسلاح كهذا في آخر الحروب ضد الإمبراطورية السوفياتية في أفغانستان، وهناك وُلدت الجهادية السلفية.
وفي زمن الحرب الباردة العربية ـ العربية، في خمسينيات وستينيات، القرن الماضي كان جزءاً من سياسة واستراتيجية السعوديين لمجابهة المد الناصري والقومي. وفي العراق، مثلاً، بعد هزيمته في الكويت، تملّكت صدام حسين نوبة إيمانية، وأصبح في إمكان القومي والتقدمي السابق تبرير كل ما أصاب العراق والعراقيين على يديه من كوارث بكونه جزءاً من خطّة إلهية، ومن اعترض عليها وعليه كأنه يعترض على المشيئة الإلهية.
لذلك، يمكن تفسير ظاهرة الإسلام السياسي، بأدوات السياسة والعلم الاجتماعي، بوصفها ظاهرة نشأت من أعلى إلى أسفل، أي فرضها استثمار بعيد المدى من جانب حكّام وقوى إقليمية ودولية في مشاريع سياسية في الجوهر. هذا ما حدث في مصر مع السادات، وفي باكستان مع ضياء الحق. وقد تعزز هذا الاتجاه على نحو خاص بعد الثورة الإيرانية في العام 1979. وبهذا المعنى أحزاب وحركات الإسلام السياسي، في عالم اليوم، أغصان على شجرة واحدة، وبينها صلات نسب، وتستمد الماء من جذور مشتركة، وإن تعددت واختلفت وسائلها في العمل على أسلمة الدولة والمجتمع، وقابليتها للاحتكام إلى، أو رفض، ضرورة التعايش بين الديني والدنيوي.
وإذا كان ثمة من خلاصة، في هذا الشأن، فإن مستقبل الإسلام السياسي وثيق الصلة بمستقبل الديمقراطية والتعددية السياسية والاجتماعية والثقافية، واحترام حقوق الإنسان، في العالم العربي.
أخيراً، ما هي أوجه الشبه بين الأصولية اليهودية والأصولية الإسلامية إن وجدت؟
– الأصوليات تتشابه وبينها مشتركات كثيرة. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالديانة اليهودية فهي تنقسم اليوم إلى ثلاث مدارس: الأرثوذكسية، والإصلاحية، والإصلاحية المحافظة. الأولى تهيمن على الحقل الديني في إسرائيل نتيجة ما عرف باتفاق الأمر الواقع بين بن غوريون والأحزاب الدينية في العام 1947. وفي بيئتها الحاضنة تزاوجت الأصولية التقليدية والاتجاهات القومية المتطرفة، وهي تجد وسيلة لتفريغ ما فيها من شحنة العنف في الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي التنكيل بالفلسطينيين. ويبقى طموحها الرئيس الاستيلاء على الدولة، والهيمنة على المجتمع، لفرض الشريعة (الهالاخاه) حتى وإن استدعى الأمر استعمال العنف والإرهاب ونشوب حرب أهلية.
وإذا كان ثمة من فرق بين الأصوليتين اليهودية والإسلامية فيمكن العثور عليه في حقيقة أن اليهودية عاشت على مدى عشرين قرناً من الزمان من دون مجابهة ضرورات عملية تستدعي التفكير في أسئلة من نوع الدولة، والنظام السياسي، والمجتمع، والقانون والتشريع، في دولة يهودية خالصة.
فعلى مدار الفترة المعنية عاش اليهود كطوائف دينية في ظل إمبراطوريات وممالك ودول في مشارق الغرب ومغاربها، ولم تكن قضية الدولة شغلهم الشاغل في الحقل الديني، ولكن وجود دولة يهودية منذ ستة عقود فرض أسئلة كهذه. كانت المدرستان الإصلاحية والإصلاحية المحافظة انشقاقاً عن اليهودية الأرثذوكسية، وتعبيراً عن بلورة آليات للتفاوض بين الديني والدنيوي في الأزمنة الحديثة، وكلتاهما تحظى بمكانة دنيا ولا يُعتد بها في سلّم التراتبية الدينية، والهيمنة على الحقل الديني، في إسرائيل.
أما الأصولية الإسلامية فتعتمد على ميراث يغطي قروناً من الزمن في موضوع الدولة، والنظام السياسي، والمجتمع، والقانون والتشريع، في دولة إسلامية خالصة. وعلى الجانب الآخر تغطي علاقتها الإشكالية بالأزمنة الحديثة قرابة قرنين من الزمن. وإذا كانت تشترك مع الأصولية اليهودية في العداء للدولة الحديثة، فهي تختلف عنها في كون الأولى لا تعاني من توتر العلاقة بين الهويتين الدينية والقومية (كلتاهما واحدة في اليهودية)، في حين يمثّل القومي في أيديولوجيا الأصولية الإسلامية مصدراً دائماً للتوتر، خاصة في ظل الدولة/الأمة، التي نشأت في القرنين السابقين على يد الحركات القومية في أربعة أركان الأرض.
بيد أن أهم أوجه الاختلاف، بالمعنى السياسي، تتجلى في حقيقة أن تاريخ نشوء الأصولية الإسلامية، وتطورها، وتحوّلاتها، كان جزءاً من لعبة الأمم، وإشكاليات الهيمنة الكولونيالية، وبناء الدولة الوطنية، والتحديث والتنمية بعد الاستقلال، ووقوع دولة ما بعد الاستقلال في قبضة أنظمة دكتاتورية، في حين لم يشهد مشروع إنشاء إسرائيل محاولات من جانب قوى في الإقليم والعالم للعب بورقة الديانة اليهودية، لم تصبح جزءاً من لعبة الأمم، وكان اليهود الصهاينة قبل إنشاء الدولة، وبعدها، هم الطرف الوحيد الذي تلاعب بها. ومع ذلك، في الأصولية اليهودية كل ما يؤهلها لإنجاب دواعشها، وخطر هؤلاء على اليهود والإسرائيليين والعالم يماثل خطر الدواعش الإسلاميين على العرب والمسلمين والعالم، وإن كنّا لا نعرف كيف ومتى.
أذكر، في هذا الصدد، نبوءة سوداء سمعتها من إسرائيل شاحاك، الذي كان أحد أبرز نقّاد الديانة اليهودية في إسرائيل. قال في إشارة إلى الأصوليين اليهود: لن يتورع هؤلاء عن استعمال القنابل النووية لتصفية الحساب لا مع الفلسطينيين والعرب وحسب ولكن مع العالم، أيضاً. نبوءة سوداء، نرجو ألا تتحقق. ولكن إذا تدهور الصراع في هذا الجزء من العالم إلى صراع بين أصوليات، فليس من الحكمة تجاهل حتى أكثر التوقّعات سوداوية.