يعتقد العديد من المفكرين بأن الحقائق الدينية لا يمكن إخضاعها للإثبات. ومن هؤلاء ابن سينا الذي يقول أن “المعاد لا يمكن إثباته بالدليل العقلي”. والأمر نفسه ينطبق على التوحيد والنبوة. بالتالي ظهر في الوسط الفكري الديني جهد لإلغاء الدليل العقلي كشرط للاعتقاد بالحقائق الدينية وتم وضع الإيمان بديلا عنه والتأكيد على أن الحقائق الدينية وتعاليمها لاعقلية. بعبارة أخرى، رأى البعض أن الإيمان بالله لايستند إلى العقل ولا يحتاج إلى دليل، وأن من يقيس التعاليم الدينية بميزان العقل كأنه يضحي بالإيمان بالله في مقابل العقل، وأنه في مسألة الاعتقاد بالله وبالحقائق الدينية يجب التعلّق بحبل الإيمان لا بحبل الأدلة العقلية.
وقد كان الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون، المفكر السياسي الأمريكي الشهير في العصر المبكر للجمهورية الأمريكية وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، يقول بأن التعاليم الدينية التي وردت على لسان المسيح عيسى بن مريم يستطيع الأطفال أن يفهموها، في حين أن آلاف الكتب التي كتبت حول إفلاطون لم تستطع أن توضح مقاصد هذا الفيلسوف اليوناني. فالإيمان يحقق غاية الاعتقاد من دون الاستناد إلى أدلة وبراهين. أو بجملة أخرى، بسبب عدم وجود دليل عقلي يثبت وجود الله، فإن الإيمان بالله يتحقق. وفي اعتقاد بعض رجال الدين المسيحيين تعتبر المسيحية “أفضل الأديان”، لأنها لا تثبت الحقائق الدينية بالدليل العقلي، إذ كلما ابتعد الدليل العقلي عن الحقيقة الدينية كلما أصبح الإيمان بها أقوى.
من جانب آخر، يعتقد أنصار كل دين بأن دينهم هو فقط دين الحق، لأنهم “واثقون ومطمئنون” من تعاليمهم الدينية. لكن هذا الإطمئنان لا يعني أن الأدلة العقلية هي التي ساهمت تأكيد “صدق” تلك التعاليم. فممكن للاعتقاد أن يكون ثابتا وقويا وصادقا، بينما لاتوجد أدلة عقلية تؤكد صدق هذا الاعتقاد، لأن “صدق” أي شيء يعتمد على وجود هذا الشيء على أرض الواقع. أما إذا لم يوجد ما يثبت هذا الشيئ على أرض الواقع فإنه لن يكون صادقا، لكنه لن يمنع أحدا من أن يؤمن به. فلا توجد أدلة وبراهين عقلية تؤكد صدق الحقائق الدينية، لكن ذلك لا يمنع الإيمان بها. بالتالي يستطيع الباحثون أن يبحثوا في ادعاءات صدق الأدلة العقلية الساعية إلى إثبات الحقائق الدينية، لكنهم لايقتربون من منطقة الإيمان بتلك الحقائق، بسبب عدم خضوع مسألة الإيمان للأدلة والبراهين العقلية. فالإيمان بوجود الله هو بمعنى عدم إثبات ذلك بالأدلة والبراهين العقلية.
والسؤال الذي نطرحه هنا هو: هل إسلام المسلمين قام على الأدلة والبراهين العقلية؟ أم قام على “الإيمان”؟ أم على التربية والتقليد، وعلى الموروث السياسي والاجتماعي الديني؟ مع العلم أن المفكرين والفلاسفة الإسلاميين لم يستطيعوا حتى الآن أن يطرحوا أدلة وبراهين يستطيعون من خلالها إثبات الحقيقة الدينية.
يشير الكثير من الفقهاء والمفسرين والفلاسفة الإسلاميين إلى أن الدين الإسلامي يتألف من مجموعة من الحقائق المستندة إلى الأدلة العقلية، وأن اعتقاد المسلمين بدينهم قام على براهين ثابتة غير قابلة لأي خدش أو نقد، في حين يؤكد الكثير من الباحثين بأن إسلام الغالبية العظمى من المسلمين جاء عن طريق التربية والتقليد المتوارث، وأن أسبابا سياسية واجتماعية دينية ساهمت في ارتباط المسلمين بالدين الإسلامي وفي تشكيل هويتهم الدينية والمذهبية. بمعنى أنه كان من الممكن للغالبية العظمى من المسلمين أن يكونوا مسيحيين أو يهودا أو أي شيئ آخر لو كانت تربيتهم الدينية وتنشئتهم مختلفة، كما كان من الممكن أن تساهم الأسباب السياسية والاجتماعية الدينية المختلفة في تغيير هويتهم الدينية.
يشير تاريخ المسلمين إلى أن الكثير من الشعوب التي أسلمت في زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين إنما أسلمت بسبب الفتوحات العسكرية، أو لعدم دفعها الجزية، أو لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة. بمعنى أنها لم تسلم استنادا إلى الأدلة والبراهين العقلية. ويشرح رجل الدين الشيعي البارز محسن كديور كيف أدخل الشيعة مفهوم “عصمة” الأئمة الإثني عشر إلى المذهب في حين لم يكونوا يعتقدون به في القرون الهجرية الأولى. ويقول رجل دين شيعي آخر هو الباحث حسين مدرسي الطباطبائي أن الشيعة المتشددين أدخلوا إلى المذهب الكثير من الإضافات، من ذلك عيد الغدير الذي سمّيَ “عيدا” منذ القرن الرابع الهجري، وهو ما وظّف سياسيا واجتماعيا لتقوية موقف اتباع المذهب تجاه التحديات التي كانوا يواجهونها، كذلك أدخلوا “زيارة عاشوراء” التي يعتقد باحثون ورجال دين شيعة بأنها تفتقد إلى سند تاريخي. إن تلك المسببات ساهمت بشكل لاجدال فيه في تقوية الرابط الديني للمسلم الشيعي وفي تشكيل هويته في مواجهة التحديات المذهبية، ومن كان يقف في الضد من تلك المسببات أو يشكك فيها كان يتعرض إما للتكفير أو للاستتابة. (حينما أثبت الباحث في الحوزة الدينية الشيعية سيد مرتضى العسكري أن زيارة عاشوراء تفتقد إلى سند تاريخي، اعتبر أحد مراجع التقليد الشيعة أن أفكار العسكري منحرفة، وأن زيارة عاشوراء وتوجيه اللعنات لأعداء أهل البيت هي جزء من عقائد الشيعة الإثني عشرية، وأن من ينكر ذلك عليه الاستغفار لكي تنزل عليه رحمة الله).
إن المسببات السياسية والاجتماعية التي جاء بها التاريخ الإسلامي ساهمت في تشكيل الهوية الدينية الإسلامية، الشيعية والسنية، بالتالي هي لا تنتمي إلى الدين الإسلامي إنما إلى تاريخ المسلمين. ومن هذا المنطلق لم يكن الخلاف بين الأديان أو بين المذاهب داخل الدين الواحد جزءا من الحقائق الدينية، بمعنى أن الخلاف لم يكن نزاعا بين الحق الديني والباطل الديني، إنما ساهمت تلك المسببات في تصويره بأنه صراع حول الحق الديني. وذلك لأن الموضوعات التي تستند إليها الصراعات الدينية هي التي تنتمي إلى الواقع، في حين أن الحقائق الدينية الإيمانية ليس من الضرورة وجودها على أرض الواقع.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
الدين.. والموروث السياسي والاجتماعيلو وجد كاتب المقال ظرفا سياسيا أو تاريخيا صيغت على ضوئه أي عبادة من عبادات الإسلام السني لذكرها ، ولكنه لم يجد شيئا من ذلك فاتجه إلى العبادات الشيعية التي يعرف الجميع أنها صيغت وفق أحداث متلاحقة سياسية وتاريخية وسلطوية بل واقتصادية ، وأعتقد أن وجود الأمثلة الخاطئة لا يعني خطأ الأصول ، أما مسألة الحقيقة العقلية لإثبات الإيمان فهناك أدلة عاطفية تربط المخلوق بالخالق ، مثل اتجاه الإنسان بوجهه إلى السماء حين تحل به مصيبة أو يتمنى شيئا بقوة ، ولو لاحظنا لاعبي كرة القدم لوجدناهم بعد تفويت فرصة هدف محقق تتجه رؤوسهم إلى السماء لا… قراءة المزيد ..
الدين.. والموروث السياسي والاجتماعي
الصورة المرفقة بالمقال عن غدير خم جميلة. الا يفترض ان يوضح المحرر من رسمها وفي اي عصر وماذا تعني كما اعتادت الشفاف ان تفعل كالعادة؟