على مدى سنوات طوال بحّ صوتنا ونفذ مداد أقلامنا ونحن نتحدث ونكتب عن الدولة المدنية واشتراطاتها وضرورة أن يـُصار إلى تأصيلها وترسيخها بكل الوسائل وعبر كل القنوات وذلك كحل للتصدي لفكرة الدولة الدينية ومنع تغولها. وتحملنا في سبيل ذلك الهجوم تلو الهجوم الذي وصل إلى حد تكفيرنا واخراجنا من الملة بزعم أننا علمانيون نستهدف الدين بطروحاتنا تلك، على الرغم من أن فكرة الدولة المدنية لا تستهدف أحدا أو جهة ما بعينها وإنما تدعو ببساطة إلى أن تتعامل الدولة بحيادية تامة مع كل مكوناتها، فلا تصطف مع فئة ضد أخرى، ولا تعطي مزايا لجماعة على حساب جماعة أخرى. ناهيك عن حقيقة أن المؤمنين والمتدينين يستطيعون العيش في ظل الدولة المدنية بأمان، وأداء شعائرهم الدينية بحرية، والحصول على حقوقهم السياسية كاملة، وذلك بموجب حكم القانون ومنطوق الدستور.
إن من خصائص الدولة المدنية أنها تتأسس على نظام من العلاقات القائمة على قيم السلام والتسامح والمساواة والقبول بالآخر، والثقة بين مختلف مكونات الوطن. وهكذا تشكل هذه القيم ما يعرف بـ”الثقافة المدنية” التي هي مجموعة أمور متفق عليها ومدونة في نصوص دستورية لا يمكن تجاوزها، وتؤمن للمواطنين كلهم الأمان والعيش المشترك والحقوق، وتحميهم من العنف والنزعات المتطرفة التى قد تتشكل على ايدي الجماعات المضادة لفكرة مدنية الدولة.
ولا داعي هنا للدخول في شرح مفصل حول أن النهضة والريادة الأوروبية ما كانت لتحصل لولا الثورة على الدولة الدينية وتأسيس الدولة المدنية على أنقاضها، وبالمثل سنتجاوز حقيقة أن البؤس والتخلف والدمار والتشظي الذي تعيشه بعض المجتمعات العربية والاسلامية كالصومال والسودان وأفغانستان واليمن والعراق هو النتيجة الطبيعية لغياب الدولة المدنية الحقة التي تؤمن بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، ولا تستخدم مدنية الدولة كمجرد شعار يــُرتكب من خلفه أبشع أنواع التمييز على اسس قبلية او عرقية أو مذهبية او جهوية. ومما لا شك فيه أن هذا العمل الأخير أدى بدوره إلى ظهور عدد من الشعارات البراقة الخادعة لعامة الناس والبسطاء، أو المدغدغة لعواطفهم المذهبية والقبلية، مثل: دولة مدنية بمرجعية إسلامية وهو الشعار الذي روجه الإخوان المسلمون في مصر، ودولة مدنية تقوم على المحاصصة الطائفية وهي فكرة حزب الله اللبناني وتبنتها الجماعات السياسية الطائفية في العراق وتطالب بها المعارضة الشيعية البحرينية، ودولة مدنية بمرجعية قبلية كما في أفغانستان التي لايمكنها التحرر من هيمنة القبائل البشتونية، وأخيرا دولة مدنية بمرجعية ولائية فقهية كما في إيران، علما بأن وصف النظام الايراني القائم منذ 1979 بالمدني فيه تجاوز فاضح وضحك على الذقون لأنه مؤسس على أبشع أنواع التمييز المذهبي والعرقي والثقافي.
مؤخرا شدد جلالة ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وهو يخاطب جمعا من المهنئين بشهر رمضان من أهالي جزيرة المحرق على البعد عن الطائفية والتعصب والفرقة والتمسك بالتنوع والتعددية والحريات التي عـُرف بها المجتمع البحريني منذ الأزل. وبعبارة أخرى، شدد جلالته على ضرورة التمسك بمدنية الدولة، حيث أن من متطلبات الدولة المدنية احترام التعددية السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، ولذلك تكون هناك حاجة مستمرة لتكريس وتعميق مفهوم الوحدة الوطنية عبر استحداث البرامج الفاعلة طويلة المدى لغرس الولاء والانتماء الوطني، بدلاً من ترك المجال أمام أشكال أخرى من الولاءات الدينية والطائفية والقبلية. والحقيقة أن ما دعا إليه العاهل البحريني منصوص عليه في المادة الرابعة من دستور مملكة البحرين التي تقول أن “العدل أساس الحكم، وتكافؤ الفرص بين المواطنين، والناس سواسية، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
بعد هذا الحدث بأيام إتخذ العاهل المغربي الملك محمد السادس قرارا تاريخيا منع بموجبه أئمة المساجد ورجال الدين من تناول الشأن السياسي واستغلال دور العبادة لتوجيه الناس سياسيا وانتخابيا تحت طائلة تطبيق عقوبات بحق المخالفين والمتمردين على قرارات جلالته.
وإذا كان المراقبون نظروا إلى كلمة جلالة الملك المفدى على أنه تأكيد على استمرار مشروع جلالته الاصلاحي بكل ما تضمنه من حقوق للمواطنين، أفراد وجماعات، وانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة تضمن لها التطور في مختلف المجالات وفق نموذج مدني عصر، وبالتالي هي دعوة من قمة هرم السلطة للابتعاد عن العنف ووسائل تدمير إقتصاد المجتمع ومستقبل الناشئة وتأجيج الطائفية، فإنهم نظروا إلى قرار العاهل المغربي على أنه عملية يــُراد بها تعزيز موقع المغرب كاستثناء بين الدول العربية والاسلامية لجهة إصلاح مؤسساته عبر الاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها دول أخرى مثل مصر وليبيا ومن قبلهما الجزائر.
غير أن الرأي الأكثر رجحانا هو أن حديث العاهلين البحريني والمغربي، ومن قبلهما قرارات خادم الحرمين الشريفين بايقاع عقوبات مشددة على مستخدمي المنابر الدينية والمواقع الالكترونية الذين يغسلون أدمغة الناشئة والشباب الغر المتحمس ويدفعون بهم نحو ساحات القتال في الخارج لم يكن ظهورها بفارق زمني قليل مجرد مصادفة. فالمستجدات والاحداث السياسية المتسارعة منذ ما ســُمي بـ”ثورات الربيع العربي”، من تأجيج للطائفية وفوضى عارمة وانفلات أمني واستيلاد لجماعات دموية على غرار داعش وأخواتها هي التي فرضت اتخاذ مواقف جديدة واضحة من الاسلام السياسي الحركي الهادف إلى إذابة الدولة المدنية القُطرية واضحة الحدود والمعالم والسياسات لصالح دولة الخلافة العابرة للقارات والمؤسسة على الأشلاء والجثث والجماجم، والمتخذة من الأساطير والخرافات والنوازع الانتقامية سياسة لها.
* باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh