مع بداية شهر محرم من كل عام يسعى الخطاب الديني الشيعي الأسطوري إلى نشر تفسيره الخرافي حول واقعة كربلاء، مؤكدا لجمهوره بأن نتائج التفسير تتعدى الفهم الطبيعي الواقعي، وتحمل من المعجزات واللامعقولات الكثير مما لا يستطيع العقل البشري أن يدركها ويستدرك نتائجها ومعانيها. فالخطاب يسعى لإبراز أن الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته وأصحابه ممن قتلوا في الواقعة كانوا فوق بشريين، وأن نتائج الواقعة لا تصب في صالح البشرية فحسب وإنما في صالح العالم والكون بأكمله، وأن المعركة تعكس توجها ربانيا خارقا لإنقاذ الوجود من مختلف المصائب والمشاكل، وأن مخرجات هذا التفسير هي السبيل للفوز في الدنيا والآخرة.
الخطاب في تفسيره هذا يطرح الرموز – الحسين بن علي وأهل بيته وأنصاره – وكأنهم ليسوا بشرا خاضوا معركة بشرية طبيعية ضد بشر آخرين، ولم يُرد للمعركة أن تكون تاريخا بشريا يستفيد منه البشر، وإنما تاريخ يسرد المعجزات والخوارق لكي يؤسس لحالة لا عقلية عاطفية مثيرة جياشة تستطيع أن تسد فراغ الانهزام الموجود في الواقع الراهن، ليحل محله انتصار أسطوري لا علاقة له بواقع الحياة ومشاكلها، متعمدا تجاهل الحقيقة البشرية المرتبطة بالمعركة والنتائج الواقعية التي أفرزتها. فالتفسير الأسطوري لا ينفع البشر في شيء، ولا يستطيع أن يساهم في تطوير حياتهم الواقعية العملية، إنما يساهم في ابتعادهم خطوات كبيرة عن الواقعية والعقلانية التي تحتاجها الحياة، لأنه يعتمد على سرد لامعقول يتعارض مع المعقول البشري.
لكن العاطفة الجياشة المرتبطة بالأسطورة قد تسد فراغات عدة يعاني منها الناس، لأنها تشبع فراغهم من خلال ربطهم بخيال غير واقعي، بحيث لا يلقون بمسؤوليات تأخرهم في الحياة على أنفسهم، وإنما يربطونها بمدى قربهم من الأساطير وتفسيراتها أو مدى بعدهم عنها.
لقد أراد الخطاب الشيعي الأسطوري أن يبعد المعركة عن الواقع التاريخي الإنساني، من أجل أن يجعل منها مادة غير إنسانية، مادة خوارقية، ليقول ان طريق الوصول إلى تلك الخوارق لا تتم إلا من خلال مفسري هذا الخطاب. فأحد أهداف الخطاب هو تقوية سلطات رجال الدين الأسطوريين بين الناس، لأنهم يملكون من خلال الأسطورة أسرار النجاة ومفاتيح الايمان، ومن ثَمّ باستطاعتهم أن يحددوا سبل العيش في الحياة الدنيا والفوز بالحياة الآخرة.
أما التفاسير الأخرى المقابلة لذلك، وخاصة التفسير العلمي الاجتماعي الواقعي، فهي، بالنسبة إليهم، تفاسير مضللة، تقلل من ربانية الواقعة وتحط من قدر رموزها، ومن ثَمّ لن تكون وسيلة للنجاة. لكنها في واقع الأمر تقوم بسحب بساط “السيطرة الخرافية على العقول المخدرة” من تحت أرجلهم، وتحرر هذه العقول من أسر اللامعقول ومن وصاية التفسير غير البشري.
واقعة عاشوراء، من وجهة نظر الخطاب الشيعي الأسطوري، لم تكن إلا حركة مخططا لها ومعروفة النتائج، لأنها مقدّرة من قبل الله، بالتالي هي حركة مقدسة. وهذا التفسير يعتبر الحسين بن علي شخصية استثنائية تتجاوز التاريخ، شخصية مقدسة فوق بشرية، شخصية كانت قادرة على طلب العون من الملائكة للمحاربة إلى جانبه في المعركة، لكن القدر الالهي أراد أن تنتهي المعركة على هذه الشاكلة. التفسير الأسطوري يشدد على القول – مثلا – بأن نبي الإسلام تحدث عن الواقعة أثناء ولادة الحسين، وأن الدماء كانت تسيل من تحت كل صخرة في يوم عاشوراء، والهدف من كل ذلك هو وضع المستمع الشيعي (وغير الشيعي) في إطار خرافي. فالتفسير الأسطوري لا علاقة له بالتحليل العلمي التاريخي الذي يستطيع أن يقطف ثمارا تخدم الحياة الراهنة. لذلك، لا جدال إن قلنا أن انصار التفسير الأسطوري يعادون مفاهيم ونظريات العلم الحديث، لأنها تشكل مدخلا لدحض تفسيرهم غير العلمي، وبالتالي إضعاف سلطتهم وسيطرتهم في الحياة، وتشجيع تمرد جمهورهم عليهم.
لقد أشار باحث في إيران قبل عدة أعوام إلى أسباب واقعة كربلاء على أنها تاريخية غير أسطورية، وإنها مرتبطة بالخلافات القبلية والسلطوية بين بني هاشم وبني أمية قبل ظهور الدين الإسلامي، وأن الأحداث التي جرت في زمن نبي الإسلام من مواجهة وقتل كبار رجالات قريش من الكفار الذين كان أغلبهم من بني أمية، قد ادت في نهاية المطاف إلى أن ينتقم يزيد بن معاوية، الذي ينتمي إلى بني أمية، من تلك الأحداث بقتل الحسين بن علي في كربلاء. وقد احتج عدد كبير من رجال الدين الشيعة في إيران – أنصار التفسير الأسطوري – على تحليل هذا الباحث.
إن أنصار الخطاب الشيعي الأسطوري إنما ينزعجون من أي تفسير يخالف تفسيرهم، سواء تعلق بواقعة كربلاء ورموزها، أو بغيرها من الأحداث التاريخية الدينية، ولا يقبلون بالرؤى المغايرة التي تفسر الأحداث التاريخية وفق نظرة تنتقد النهج الأسطوري، وفي العادة يصفون ناقدي تفسيرهم وطارحي التفاسير المتباينة بأنهم قد تعدّو الحدود المسموح بها، بل قد يخرجونهم من الدين. لذلك هم يبرزون تفسيرهم وشخوصهم وكأنهم أوصياء على الفهم والتفسير، ويعتبرون منتقديهم أعداء للدين. وإذا ما ظهر تفسير علمي تاريخي بشأن الواقعة، يتشدد أنصار الخطاب الأسطوري في إلغاء هذا التفسير، وينعتون أصحابه بنعوت غير أخلاقية، ويطرحون المسألة وكأنها مواجهة بين الحق المطلق والباطل المطلق، فهم يمثلون هذا الحق، وغيرهم المختلف معهم الناقد لتصورهم الغيبي الأسطوري يمثلون الباطل، على الرغم من أن الاثنين لا يعكسان إلا تفسيرا وفهما وتحليلا بشريا ونقلا لروايات بشرية حول حادثة بشرية تاريخية. فعلاقة التفسير الأسطوري بعملية التحليل العلمي هي علاقة ضدية، بل وعدائية في كثير من الأحيان. فناقل الأسطورة لا يسعى إلاّ إلى تركيبها في أذهان المستمعين، من دون أن يكون لهؤلاء المستمعين الحق في ممارسة النقد أو التشكيك في التاريخ.
فعلى الرغم من أن إدخال نهج المساءلة في أروقة التاريخ الأسطوري المقدس هو خط أحمر يجب على “المؤمن” ألا يقترب منه، كذلك يعتبر السؤال في هذا الموضوع ليس سوى عبث فكري ومضيعة للوقت، لأن السائل لا يتعامل مع موضوع عقلي يقبل السؤال ليحصل منه على إجابة، وإنما يخوض في الغيب والأساطير التي لا مكان للعقل والعقلانية فيهما. فالسؤال والتحليل والنبش العلمي الأحفوري والأنثروبولوجي في التاريخ هو وسائل بحث وتحليل حديثة لا يمكن أن تدخل في معادلة الأسطورة، لأنها قد تتوصل إلى نتائج تقلب الكثير من الأمور المقدسة رأسا على عقب وتقلب الطاولة على المفسر الأسطوري. إذاً، الخطاب الحداثي والعلم الحديث وحرية البحث العلمي هم بمثابة العدو اللدود للخطاب الديني الأسطوري الغيبي المقدس.
لقد شن الخطاب الشيعي الأسطوري هجوما عنيفا على المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي واعتبره خارجا عن الدين، وذلك لطرحه تفسيرا علميا غير أسطوري تجاه مختلف الأحداث والقضايا الدينية التاريخية. فقد وضع شريعتي الخطاب الأسطوري أمام تساؤلات ظلت تنتظر إجابات، وانتقد التفسير الأسطوري المقدس لواقعة كربلاء، وطرح الحادثة انطلاقا من “الدور العقلاني” لرمزها الرئيسي الحسين بن علي لا استنادا إلى أسطورته، طرحها انطلاقا من “نظرة الحسين السياسية الثاقبة” في الإطاحة بحكم يزيد بن معاوية لا انطلاقا من أن الواقعة كانت مقدرة وخاضعة لكمية كبيرة من الغيبيات، طرحها انطلاقا من إدراك الحسين بأنه إن لم يستطع هزيمة جيش يزيد فإنه سيُقتل وبالتالي سيفضح الطبيعة الظالمة لحكم الأمويين لا استنادا إلى أن الواقعة هي بوابة لحل مشاكل الناس عن طريق الرؤى الغيبية الأسطورية. إن هذه الرؤية التحليلية لا تتوافق البتة مع نهج الأسطوريين. فرموز واقعة كربلاء لدى الأسطوريين لا يمكن أن يكونوا قدوات بشرية، لأنهم فوق البشر، وهم شخصيات لا تتناسب إلا مع الحياة القديمة التي كانت تستند إلى مبدأ الأسطورة في التعامل مع شؤون الحياة آنذاك.
فالحياة الحديثة بالنسبة للأسطوريين ليست سوى حياة الأسباب والوسائل، وليست حياة الرؤى والمفاهيم الحديثة. هم يرفضون أن تتغلغل تلك الرؤى والمفاهيم في أذهانهم، لكي لا يواجهوا أزمات فكرية وروحية تزعزع إيمانهم وتزلزل التاريخ الأسطوري. وإذا ما طرحت حادثة كربلاء استنادا إلى التحليل التاريخي فلن تكون هناك حاجة لممارسات الحزن العنيفة المشوهة لواقعة كربلاء، والتي هي نتيجة طبيعية للطرح الأسطوري.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com