“بالنسبة للأنظمة الحاكمة، تظل دراسة الجنسانية مزعجة الى حد أقصى، ذلك ان دراسة الجنسانية العربية تؤدي لا محالة الى تسجيل سلوكات وممارسات جنسية غير شرعية من وجهة الفقه الإسلامي، الشيء الذي يقود الى محاكمة الأنظمة من طرف الحركات الأصولية”.
عبد الصمد الديالمي
يستمد كتاب “المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب” أهميته من كونه يتناول ظاهرة الإرهاب الإسلاموي من منظور ابستمولجي تفتقده الكثير من البحوث والدراسات الفكرية في عالمنا العربي والإسلامي، وبالأخص تلك البحوث والدراسات التي أهملت دور المكبوت الجنسي في تأسيس وانتاج الفعل الإسلاموي المتطرف.
فعبر ما يربو عن ٢٠٠ صفحة من الحجم المتوسط يقدم عالم الاجتماع المغربي “عبد الصمد الديالمي” تحليلا معرفيا جادا للدور الذي يلعبه المتغير الجنسي في تشكيل الشخصية الإسلاموية، مؤكدا من خلال سطور تلك الصفحات على إنه في الوقت الذي لا يمكن فيه تجاهل دور المتغيرات السياسية والاقتصادية والايديولوجية في تشكيل تلك الشخصية المتطرفة، فإن رفد المقاربات الفكرية التي تهتم بدراسة ظاهرة الإرهاب الإسلاموي “أو الأصولية وفق تعبيره ” بالفرضيات التي تعزز من وجود علاقة ارتباطية وثيقة بين الإرهاب والحرمان الجنسي بات أمرا هاما في ظل تنامي العلاقة الوطيدة التي تجمع الفقر بالتطرف الديني في العالمين العربي والإسلامي.
ومن خلال الجزء الأول من الكتاب الصادر عن “دار الساقي” و”رابطة العقلانيين العرب” يقدم الديالمي اشتغالا علميا على موضوعة الجنس والمدينة، مركزا على كل من البعد اللساني والبعد الرمزي لتلك الموضوعة، فالبعد اللساني يجعلنا نميز بين ما يطلق عليه الديالمي بالمواضيع المعمارية المذكرة والمواضيع المعمارية المؤنثة، أما البعد اللساني فهو يمكننا من معرفة ما وراء تسمية أماكن سكنية معينة بأعضاء جسدية منها على سبيل الذكر لا الحصر تسميات “رأس البيت/ فم البيت/ صدر البيت… الخ”.
وبالإضافة الى البعدين الآنفين يشير المؤلف أيضا إلى إن العلاقة بين الجنس والمجال المعماري في المدينة الإسلامية لها بعد وظيفي يتعلق بالملامح والإكراهات ذات الصلة بأماكن الفعل الجنسي داخل المسكن، كما إن لها بعد حدودي يرتبط بتقسيم المسكن في المعمار العربي والإسلامي الى أماكن خاصة بالنساء وأماكن خاصة بالرجال، ففي هذا السياق يلاحظ الديالمي “أن الحدود الجنسية إنطلاقا من تحولها إلى حدود نفسية باطنية، تستمر في الأماكن الأكثر حداثة مثل المقهى، فجلوس المرأة في المقهى لم يتحرر من بعض الشروط التي تبين أن الحداثة المجالية لا تعني آليا الحداثة الجنسية، نادرا ما تجلس المرأة لوحدها في المقهى، ونادرا ما تجلس في رصيفه، كما أن هناك مقاهي لا ترتادها النساء قطعا، دون أن توجد مقاهي خاصة بالنساء”، وهكذا فإن شعورية التقسيم الحدودي للمكان تقوم كما يلاحظ الديالمي على استنباط تجنيس المجال في اللاشعور العميق للفرد والمجتمع.
وتحت عنوان “الجنس بين وفرة الإثارة وشح الأمكنة” يتناول المؤلف في الجزء الثاني من الكتاب عدة عوامل ترتبط بالمدينة الإسلامية وتلعب دورا بارزا في بلورة وتشكيل الشخصية الإسلاموية، ومن بين هذه العوامل، عامل الكثافة السكانية داخل المنزل، حيث يلاحظ المؤلف هنا إن تلك الكثافة تلعب دورا كبيرا في إيقاظ الرغبة الجنسية مبكرا ومن ثم تسهيل اللواط والسحاق وزنا المحارم يقول الديالمي:
“إن تقليص المسافات بين الأجساد بالإضافة إلى نمط اللباس الشبقي أكثر فأكثر، يطرح مسألة الحدود الجنسية داخل الأوساط الفقيرة في العالم العربي. كيف يمكن للأسرة أن تراعي الفصل بين الجنسين في النوم وهي تعيش في غرفة واحدة مثلا؟ في الغرفة الجامعة لكل أفراد الأسرة، لا يستطيع المراهقون القطع مع الإثارة الجنسية التي يتعرضون إليها في الشارع العام، ولا يتمكن الوالدان من خوصصة حميميتهما الجنسية. في مثل هذه الظروف الحياتية والمسكنية، يبرز الحجاب كضرورة نفسية، كآلية دفاعية تحمي الفرد من وضع مقلق وعصيب، إنه بمثابة الحائط/الغائب الفاصل بين الجنسين، إنه حائط رمزي”.
كذلك يشير الديالمي إلى خطورة ترافق ارتفاع سن الزواج في العديد من المدن العربية والإسلامية مع ارتفاع إطرادي في سلعنة الجنس وتحول العديد من تلك المدن إلى مدن رأسمالية للمتعة والإثارة الجنسية، أي إلى أشبه بشقّة دعارة كبيرة أو كعبة جنسية يحج إليها كل من يرغب في ممارسة الاختلاط الجنسي غير الشرعي.
“إن المدينة الرأسمالية، تلك السوق الجنسية، تخلق باستمرار الحاجة الدائمة والقوية للاستهلاك الجنسي، والأمر لا يتعلق فقط بإشباع الرغبة الأساسية والطبيعية، بل يتعداه إلى البحث عن مِتَع مصطنعة لأن العرض هو الذي يحدد الطلب ويفرزه. في هذا الإطار، يتحول الجنس إلى لعبة، إلى تسلية، وهو الشيء الذي يبين أن الرأسمالية، من خلال الإشهار، تتحكم في الفرد وتسيره حسب مصالحها. صحيح أن الرأسمالية العربية التابعة لم تبلغ بعد هذا المستوى من سلعنة الجنس، لكن المدن العربية الكبيرة لا تفتأ عن إثارة الرغبات الجنسية في صفوف سكانها، ومن ثم السؤال التالي: هل بإمكان السّاكنة الحضرية أن تلبي حاجياتها الجنسية الناتجة عن تنشئة رأسمالية؟”.
هكذا في ظل تنامي ما يسميه الديالمي بالحداثة الجنسية وفي ظل تنامي معدلات الفقر ومعدلات تحول المدينة العربية والإسلامية إلى سوق لبيع المتعة الجنسية، يلجأ العديد من المسلمين المقهورين جنسيا إلى رفض تلك الحداثة بدعوى أنها تتعارض مع الإسلام وثوابته الأخلاقية. فبالنسبة لأولئك المسلمين “تشكل النظرة إلى تلك النساء المجملات واللاتي يستطعن الضحك والكلام بصوت عال دون أن يصطحبهن أحد، واللاتي يشبهن النساء اللواتي يقبلهن الرجال بسهولة على شاشة التلفزيون، تشكل النظرة إليهن، قلقا كبيرا”، لذلك لا مفر من العودة إلى المقدس الديني ولثوابته اللاهوتية التي ترفض تلك الحداثة، وهي حالة لجوء ستكون اعتيادية لولا نجاح الخطاب الإسلاموي المتطرف في توظيف جهل البعض بالمقدس الديني، من أجل صناعة متخيل إرهابي تكون الدعوة لتخليص المجتمع وتخليص العرب والمسلمين من التسمم الجنسي الحداثي، هي بوابة العبور للعنف والانتحار واستهداف المدنيين والأبرياء.
عموما يوضح الديالمي مسألة ارتباط المكبوت الجنسي بالإرهاب الإسلاموي بشكل واضح عندما يؤكد على إن الحرمان الجنسي “شعور بالإحباط وبالفشل، وهو شعور يقود صاحبه إلى التقليل من قيمته الشخصية وإلى اليأس من الحياة طبعا. تفجير الذات الانتحاري هو الحل الوحيد الذي يبقى أمام الإنسان المحروم المقهور ليتحرر بشكل كلي ونهائي من ذات عاجزة عن مواجهة الحداثة وفاشلة في القيام بأدوارها الذكورية التقليدية (أي القدرة على النكاح والنفقة)، وهميا، يعيد التفجير البطولي إلى الإنسان المقهور كرامته ويمكنه من الانتقام من أناس يحملهم مسؤولية فشله، كما يوهمه بالذهاب الى الجنة للنيل من نعمها”.
وفي سياق تتبعه لأسباب ارتباط التشدد الإسلاموي بالحرمان الجنسي وبالأخص عند بعض النساء الإسلامويات، يضع الديالمي إجابات ابستمولوجية مثيرة للنقد والجدل، من بينها ما يلي من إجابات:-
أولا: إن النزعة الإسلاموية تتماهى مع النزعة الصوفية في حنينها وتطلعها اللاشعوري للحظة الذروة الجنسية “فكلما اضطربت التجربة الجنسية، تم البحث عن الاتحاد بالله، بمعنى أن الاتحاد الروحي بديل عن الاتحاد الجسدي الفاشل أو الغائب”.
ثانيا: إن التدين عند بعض النساء الإسلامويات هو “تدين تعويضي، فهو يساعد النساء المحرومات جنسيا على بلوغ نشوة روحية غير جنسية، أعلى وأسمى”.
ثالثا: بالإضافة الى ما توصل اليه كنزي وماسترز وجونسون حول وجود ترابط إحصائي بين الاضطرابات الجنسية ومعدل ارتفاع الممارسات الدينية، يبين لنا الألماني رايش “كيف أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة تؤدي إلى ظهور أخلاق جنسية متشددة ومحافظة”.
تناول المؤلف لمسألة نقاب المرأة جاء من خلال تحليله للدلالات التي يمكن استخلاصها من صورة يظهر فيها رجل يأخذ صورة لخمسة نساء منقبات، حيث يقوم المؤلف بتحليل الخطاب الصامت الذي يمكن أن ينتج تلك الصورة في مخيلة كل من يتأمل في علاماتها وسماتها المتعددة، ففي هذا السياق يعتبر الديالمي النقاب سواد مظلم وظالم يعبر عن حرب رمزية شعواء تخوضها عقليات متشددة ومنغلقة فكريا ضد مواطنة المرأة، وضد تحررها من احتكار الرجل المسلم لجسدها باعتبارها أداة متعة وإنجاب، فتصوير نساء منقبات أمر يطرح تساؤلات عدة من بينها لماذا دائما نفترض في عالمنا العربي والإسلامي إن كل الرجال في حالة هيجان جنسي دائم وفي وضع انقضاض دائم على كل أنثى وعلى كل شيء؟ لماذا نعتبر دائما المرأة فتنة والرجل بهيمة جنسية هائجة؟ هل كل النساء العربيات والمسلمات فاتنات ومثيرات للشهوة حتى يتم إجبارهن على إخفاء أجسادهن عن الآخرين؟… الخ من أسئلة يختتم بها الديالمي مقاربته النظرية المتعلقة بموضوعية المدينة الإسلامية والإرهاب، وهي مقاربة يرفدها بجملة من الحوارات الصحفية التي أجريت معه وبمقابلة يدعو من خلالها الى تأسيس إسلام علماني قائم على الأطروحات التالية:
أولا: التمييز بين القرآن كنص سماوي مقدس مرجعي ثابت والإسلام كمجموع للتأويلات البشرية التطبيقية للقرآن.
ثانيا: “ان سعي الفقهاء والإسلامويين الى إنتاج مجتمع يكون تطبيقا ميكانيكيا للمعنى الظاهر للنص القرآني دليل على ضرورة تكوين الفقيه وتزويده بالعلوم الاجتماعية كمنظور وكمضمون حتى يتمكن من المساهمة في إنتاج إسلام ملائم”.
ثالثا: “المجتمع الإسلامي هو مجتمع يتحول فيه المسلم اللامواطن الى المواطن المسؤول عن إسلامه، وغير المحتاج لسلطة دينية تخيفه من خارج ومن فوق”.
رابعا: عدم الخلط بين الحداثة والغرب، “صحيح إن الغرب هو المحرك الراهن للحداثة لكن لا ينبغي للاستعمال الغربي السيء للحداثة أن ينفرنا من الحداثة وأن يدفعنا إلى الاعتقاد الخاطئ إن الحداثة ملك له وحده، إن الحداثة تحقيق لأسمى القيم القرآنية، إنها إسلام بين الإسلامات الممكنة، ان الحداثة كتنمية وديمقراطية، وباعتبارها تمديدا للروح القرآنية، نازلة عارمة تجعل من الضروري فتح باب الاجتهاد بشكل جذري يتجاوز السقف الذي وضعه الأوائل للاجتهاد.. إن الخصوصية الإسلاموية تمظهر جزئي للعقل الإلهي الشمولي في التاريخ”.
خامسا: “إعادة النظر في أسس تدبير النصوص المرجعية أول خطوة في فتح باب الاجتهاد الملائم”.
سادسا: “التخلص من ذكورية الحقل الفقهي”.
سابعا: “الدعوة إلى إصلاح الإسلام كتأويل ملائم للقرآن في اتجاه إجازة كل ما هو عقلاني وتنموي وديمقراطي، وكمنظور لا يختزل الإسلام في فقه لاهوتي مهلوس بثنائية الحلال-الحرام، وبالتالي لابد من الاعتراف بالمكونات الأخرى للإسلام الواقع على المستويين الرمزي (فلسفة، تصوف، آداب، علوم) والمادي (حضارة، فنون، معمار،…) كذلك ضرورة إصلاح الإسلام المؤسساتي وذلك بالإنصات إلى الحركات الاجتماعية الساخنة وفي مقدمتها الحركات النسوية”.
ختاما……
سواء اتفقنا مع الديالمي أو اختلفنا معه، يظل هذا الكتاب من وجهة نظري القابلة للصواب والخطأ من بين أهم الإصدارات الفكرية في المكتبة العربية المعاصرة، وذلك لما تضمنه من طرح جرئ لمسائل كانت أشبه بتابو نظري في الحقل السوسيولوجي العربي، فنبش الديالمي لجانب من المسكوت عنه في دراسات وأبحاث الإرهاب الإسلاموي أمر يحسب له ويستحق التقدير والاهتمام، بقدر ما يستحق أيضا التعامل مع مضمونه بأفق نقدي بعيد عن تلك الهرطقات الظلامية الضيقة التي تستجلي فرضيات التآمر والتكفير والاتهام بالانسلاخ عن الإسلام وقيمه.
لقد كان جهد الديالمي في هذا الكتاب، جهدا مميزا عن غيره من الجهود البحثية التي تناولت مسألة الإرهاب الإسلاموي في عالمنا العربي والإسلامي، فاستحضار المقاربة النفسية وربط المكبوت الجنسي بموضوعة إنتاج الشخصية الإسلاموية، مسألة هامة تستحق المزيد من الجهد والنقاش العلميين، فقط مع الأخذ في الاعتبار أبعاد ومغزى ذلك السؤال الذي وجهه أدونيس ذات مرة لبعض علماء النفس العرب، وكان مفاده:
“كيف سيتمكن علم النفس العربي من تحليل فردا لا ذاتية له؟ أو ذاتا لا ينظر إليها ولا تعيش إلا بوصفها موضوعا؟”…..
كاتب وباحث ليبي
* صدر هذا الكتاب مطلع عام 2008م، وأردفه الديالمي بكتاب آخر تحت عنوان “سوسيولوجيا الجنسانية العربية”، صدر عام 2009م عن دار الطليعة ببيروت.