هناك نفر من الناس ممن اعتدنا على تسميتهم بـ”المثقفين”، خلطوا بين الثقافة ومسؤولياتها الإبداعية لممارسة دور حداثي في المجتمع وإحداث تغيير فكري يساهم في ترسيخ هذا الدور، وبين اعتبار الثقافة أداة لتحقيق أهداف بعيدة عن أطر الإبداع والتغيير وقريبة من صور المصالح المستندة إلى المقولة الشهيرة “الله لا يغيّر علينا”. فرغم الرسالة السامية للثقافة والمثقفين من مفكرين وأدباء وشعراء ونقاد وغيرهم لتحريك مياه الحياة التقليدية الراكدة في المجتمع وإحداث حراك إبداعي تشترطه عملية التنمية بجميع مكوناتها، إلا أنه يلاحظ أن هذا النفر من “المثقفين” بات ضد هذا الحراك واكتشف أن مسؤوليته تكمن في إبقاء الوضع على ما هو عليه، محاربا عملية التغيير والإبداع وأدواتهما الرئيسية من نقد وانفتاح وعولمة وتعددية واحترام حقوق الإنسان، متجنبا استخدام أي حَجَر لإلقائه في مياه الحياة التقليدية الراكدة خوفا من تأثير ذلك على ديمومة مصالحه الشخصية والفئوية والسلطوية، الأمر الذي جعل استخدام مصطلح “مثقف” بجانب اسمه شأن يهدد الثقافة برمتها. فالحرية تأتي على رأس شروط تحقيق التنمية، إذ لولاها لما استطاع المثقف أن يَخرُج ما في مكنونه من إبداع.
هذا النفر من “المثقفين” يعتقد أن ما يسمى بالثوابت الدينية والاجتماعية هي أهم من مختلف الركائز التي تستند إليها العملية الثقافية الإبداعية التغييرية في المجتمع، وأهم تلك الركائز هي حقوق وحريات الإنسان العربي والمسلم الذي يعيش في كنف أنظمة تنظّم الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا النفر، بعلم أو من دون علم، يساهم بصورة جلية في انتهاك تلك الحقوق والحريات، بسبب خشيته من نقد الممارسات المناهضة لحرية النشر والتعبير التي تقوم بها تلك الأنظمة، ولخوفه على مصالحه، وخضوعه لفكر غير حر، فكر يجعله لا مباليا تجاه أسس استمرار العملية الثقافية الإبداعية.
هؤلاء يعكسون في مواقفهم من الحرية والنقد، انتمائهم إلى فكر خاضع للمصلحة لا إلى الإبداع والتغيير، فكر يدوس على الإنسان المثقف بكل سهولة إذا ما تجاوز القوانين المستبدة للأنظمة والحكام وتمرّد على حدود ما يسمى “بالثوابت” الفقهية والاجتماعية. فهم يستندون إلى تفسير خاضع لرؤية إيديولوجية (فقهية شمولية مصلحية) تعتقد أن الحريات الفكرية ليست هي الأساس الذي يقوم عليه إبداع المثقف، إنما لا بد من إخضاع الثقافة لقانون الحكام والأنظمة ورجال الدين، ولا بد أن يعي المثقف الخطوط الحمراء الفقهية والاجتماعية قبل الإقدام على أي منجز. والهدف من كل ذلك هو عدم تضرر مصالحهم الضيقة في ظل مصير الإنسان وحقوقه وحرياته التي هي في نظرهم مسائل ثانوية مقابل الثوابت الفقهية والاجتماعية الشمولية.
لذلك ساهم هذا النوع من الفكر في دعم الأنظمة الشمولية، وفي تشجيع الفقه التقليدي المناهض للحداثة والتغيير في السيطرة على الحياة العامة، كما أنتج ما يسمى بـ”المثقفين” المتحدثين باسم الأنظمة الشمولية والمتمصلحين من سياساتها. كذلك أنتج فئة تدافع عن المؤسسة الدينية التقليدية التي لا تستطيع التعايش مع متغيرات الحياة في هذا العصر، فئة تتجاهل قضايا الحريات وحقوق الإنسان دون أي إحساس بتأنيب الضمير تجاه ما يعانيه الإنسان العربي والمسلم بجميع مكوناته من قهر واستبداد. فلم نسمع – ولن نسمع – احتجاج هؤلاء “المثقفين” على تدني مستوى الحريات السياسية والمدنية والحقوقية. ولم نسمع احتجاجهم على مصادرة حرية الفكر والنشر والتعبير، أو تعاطفهم مع مَن منع مِن ممارسة أنشطته الثقافية الإبداعية. كل ذلك بحجة المحافظة على الثوابت الدينية والاجتماعية. فجميع المشكلات التي تضيّق على حريات الإنسان الفكرية وتمس حقوقه وإنسانيته، يجب، بالنسبة لمثقفي الأنظمة، التضحية بها إذا ما تحدّت تلك الثوابت.
إن مواقف هؤلاء “المثقفين” شبيهة بمواقف أنصار المخلوع صدام حسين ونظامه البعثي العروبي الفاشي الذين ضحّوا بإنسانية الإنسان العربي والمسلم وانتهكوا حقوقه ومكتسباته، مقابل نصرة ما يسمى بـ”قضايا الأمة” وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهي قضايا كان الهدف من طرحها بهذه الصورة هو تأكيد سيطرة الأنظمة الشمولية على سلطات الحكم والهيمنة على مقدرات الشعوب وحقوقها. وقد كانت تلك السيطرة عنوانا عريضا كتبته الأنظمة على صدر الشعوب بمساعدة من هذا النفر من “المثقفين”، وهو ما حقق لتلك الأنظمة إحكام سيطرتها على السلطة وعلى مقدرات الشعوب، وأمّن “للمثقفين” مصالحهم الشخصية، إضافة إلى عرقلته لحركة التغيّر الثقافي الحداثي في المجتمع. فالفكر المؤدلج والمؤسس لنظام حياة شمولي يعكس أزمة أخلاقية، بمعنى أنه يعرقل الحركة الثقافية الهادفة إلى تغيير الوضع الإنساني. فالحرية واحترام حقوق الإنسان أصبحتا عنوانا رئيسيا في موضوع الأخلاق في العصر الحديث، في حين تعكس مواقف هذا النفر من “المثقفين” تجاه الحركة الثقافية الإبداعية التغييرية عداء مستحكما تجاهها، وحرصا على مصالحها الضيقة ولو أدى ذلك إلى انتهاك حقوق الإنسان وسحق حرياته والسيطرة عليه بمختلف صنوف الاستبداد. فهذه الفئة تسعى لتغيير مهمة الثقافة، من جعلها مساهما في نشر الحداثة والإبداع والتغيير في المجتمع، إلى مساهم في خلق بيئة ثقافية “مؤدبة” خانعة وخاضعة لا همّ لها سوى مواجهة التغيير وإبقاء الوضع على ما هو عليه، وضع “لا يهش ولا ينش”.
إن الحياة الراهنة أصبحت تستند إلى رفض العيش في ظل سلطات مسبّقة تتحكم في حياة الإنسان وفي تفكيره وتمنعه من التغيّر والتطوّر والإبداع. فأطر التفكير باتت مفتوحة بحيث لا يمكن تحديدها أو السيطرة عليها، وباب “انتخاب” الأطر التي يجب أن يعيش تحت ظلها الإنسان انفتح بحيث لم يصبح هناك مجال لـ”إجبار” الآخرين على الخضوع لإطار فكري وثقافي معين، وبالذات للإطارين الديني والاجتماعي. ففي كل مجال من مجالات الحياة، وفي كل شأن من شؤون الإنسان، انفتح باب الانتخاب وتعددت الاختيارات بعد أن تنوعت طرق التفكير. ففي الماضي كانت مسؤولية الإنسان هي “التبعية” للسلطات المتحكمة في الحياة، ومنها سلطة رجل الدين الفقيه والأنظمة السياسية المستبدة، وهذا ما يهدف إلى عدم تغييره هذا النفر ممن يسمى بـ”المثففين”، في حين استطاع نهج “التنوع والاختيار والإبداع” أن يضعضع تلك السلطات. فليس أمام الإنسان في الحياة الحديثة سوى السير في نهج التنوع والاختيار والإبداع، لأن جميع الأمور والقضايا خاضعة لهذا النهج. فالتعدد ظاهر في مختلف جوانب الحياة، وبالتالي فإن تنوع الاختيارات لا يمكن أن يخضع للسؤال التالي: هل نريد هذا التنوع أم لا نريده؟ فالحياة قائمة على التنوع ولا حياة من دونه، لكنه يختلف في مؤشر النسبة من مجتمع إلى آخر. فلاتوجد في الحياة الحديثة حدود معينة للتفكير أو أطر لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، ولا يمكن تكميم فم التفكّر وتكبيل يديه بأغلال تمنع عنه الحرية والإبداع، كما لايمكن رميه في سجون اللاتفكير المنتشرة في أصقاع العالمين العربي والإسلامي، وأخطر هذه السجون على الأمن والسلم الاجتماعي، بل وأكثرها فتكا بالتفكير الحر، هي تلك التي يصنعها الخطاب الفقهي التقليدي التاريخي المتحالف مع المستبد السياسي.
لننظر إلى الظروف المحيطة بنا ونحن نعيش وسط عالم العرب والمسلمين، كيف استطاع السجّان الديني أن يتحالف مع المستبد السياسي ويصنعا من هذه الحياة سجنا لا يقل سوءا عن أي جدران مسورة بالأسلاك الشائكة والحديد والحراس وأجهزة المراقبة الحديثة لمعاقبة المجرمين وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم. فالسجن الذي صنعه الخطاب الفقهي التقليدي التاريخي المتحالف مع المستبد السياسي، أو ما يسمى بالمستبد الديني السياسي، هو أسوأ من السجن الذي بني للمجرمين. فالمجرم على يقين بأن عالم اللاحرية سوف ينتهي بمجرد انتهاء فترة عقوبته، لكن ما مصير من يعيش في سجن الحياة المكبل دائما بأغلال الأحكام والقوانين الدينية والسياسية المستبدة التي حكمت على الحرية والعقلانية والإبداع واحترام حقوق الإنسان بالمؤبد؟
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي