في بولندا وبلدان البلطيق تعود القوات الأميركية والأطلسية وتعود مفردات الحرب الباردة، هذا التوتر يبقى تحت السيطرة ويمنع بوتين من ارتكاب ما يشبه المغامرة.
“فلاديمير بوتين مؤيد لروسيا قوية معتزة بنفسها، روسيا التي هي نحن. نحن لحمها ودمها، نحن شعبها”، بهذه العبارة برر الأديب الروسي و“المنشق السوفياتي” الكسندر سولجنستين تسلمه جائزة الدولة من الرئيس فلاديمير بوتين في عام 2007، بعدما رفض تسلمها مرتين، الأولى من ميخائيل غورباتشوف، والثانية من بوريس يلتسين.
على خطى سولجنستين، وغيره من القوميين الروس، يندفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على طريقته وبتصميم يشوبه الارتياب بالغير لاستعادة “المجد الروسي الضائع”، وخاصة منذ ضمه شبه جزيرة القرم.
مع الاستمرار في اختبار القوة مع الغرب (خصوصا مع واشنطن وبرلين بدرجات متفاوتة). وعلى ضوء “عزلة” تعرض لها بسبب الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، يعتبر مناهضو بوتين في الداخل والخارج “أن نهجه العدائي يحمل قدرا كبيرا من الغضب مما يعكس الآمال الضائعة لقوة عظمى سقطت، لكنها لا تزال قادرة على المناورة والإيذاء”. لكن هؤلاء أنفسهم يستدركون بأن “روسيا لا تزال قوة قادرة على الاضطلاع بمسؤولياتها، على مساعدة أو إعاقة الدبلوماسية الأميركية في العديد من الملفات”.
هذه النظرة المتباينة إلى الدور الروسي وإمكانـاته، والمعطـوفة على ضغـط اقتصـادي في مجالي العقوبات وسعر النفط، تترافق مع استمرار النزيف في شرق أوكرانيا وإعادة انتشار قوات حلف شمال الأطلسي على الحدود الروسية في شرق أوروبا. وهذا ما يزيد من قلق بوتين الذي اعتبر أن توسع الناتو يمثل “المسعى الأكثر عدائية للبنتـاغون منـذ نهاية الحرب الباردة”. وهذا ما دفعه ربما للقيام باستعراضين كبيرين للقوة العسكرية (في مايو الماضي لمناسبة الذكرى السبعين للانتصار على النازية) والاقتصادية (انعقاد منتدى سانت بطرسبورغ في يونيو الجاري بحضور 114 دولة)، علّ ذلك يدلل على عدم نجاح خطط تطويقه وعزله، وأنه لا بدّ من الاعتراف بمصالحه الحيوية، وإلا سيكون الجواب في التهديد بالعودة إلى الأساليب القديمة في الابتزاز النووي والاستراتيجي، كما حصل قبل اتفاقية مينسك بخصوص أوكرانيا.
وفق قراءة تاريخية مختلفة عن القراءة الغربية لربع قرن مضى، يتهم الرئيس الروسي الولايات المتحدة بأنها سعت لفرض نموذجها الأحادي والمهيمن بعدما اعتقدت أنها انتصرت في الحرب الباردة. ولذلك منذ حرب جورجيا في صيف عام 2008، ما فتئ زعيم الكرملين يؤكد على ضرورة وضع “نظام عالمي جديد يضمن الاستقرار والأمن”، أي أن يكون هناك “قواعد جديدة”، أو”تصبح اللعبة الدولية دون قواعد”.
وهذه الرؤية لها تبعاتها عبر استنهاض الأمة الروسية والتركيز على وجوب معاملة بلد مثل روسيا بالاحترام الواجب.
هذه الخلفية الأيديولوجية، وهذا الغلاف السياسي كانا ضروريين للمبارزة المقنّنة من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأسود على محك معطى إستراتيجي جديد مع واشنطن والناتو، إذ أن طي صفحة الشراكة الروسية – الأطلسية، القصيرة العمر، لا يعني حكما العودة إلى الحرب الباردة بشكلها السابق.
ظن “القيصر الجديد” أن نفوذه يتعزز بعد نجاحه في لعب الورقة السورية وتنظيم الألعاب الأولمبية في سوتشي وضم شبه جزيرة القرم، واحتواء “ثورة الميدان” في كييف من بوابتي شرق وجنوب أوكرانيا، لكن حصاد بوتين أقرب إلى السلبية على ضوء الأزمة الأوكرانية والممارسات الأخرى داخليا وخارجيا.
بالرغم من اللهجة العالية غالبا، يجنح الرئيس الروسي إلى المرونة عندما يذكّر الغربيين بوجوب عدم نسيان “الميراث المشترك” للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وهو “الثقة والوحدة فضلا عن القيم التي شكلت أساس النظام العالمي بعد الحرب”.
وعنـد تطرّقه للوضع الاقتصادي، فهو يقر بالقيام بجهد كبير من أجل تجنب حدوث “أزمة اقتصادية عميقة، وضمان استقرار سعر صرف العملة الوطنية، وإبقاء التضخم تحت السيطرة خاصة بعد انهيار أسعار البترول”.
وفي الأسابيع الأخيرة، كادت الأمور تتفاقم أكثر مع الغرب إثر صدور أحكام قضائية في قضية “يوكوس” (الشركة النفطية التي حجز بوتين ممتلكاتها وأمر بحبس رئيسها خودوركوفسكي الذي أُفرج عنه بوساطة ألمانية) في بلجيكا وفرنسا تطالب الدولة الروسية بدفع 1.6 مليار دولار، ونتيجة التخلف صدرت مذكرات في بلجيكا وفرنسا تقضي بمصادرة أصول وممتلكات روسية، وطال الأمر سفارات موسكو في بروكسيل، وجرى إيقاف تنفيذه عندما لوّح لافروف بوجوب احترام معاهدات فيينا حول العلاقات الدبلوماسية.
ومن متاعب بوتين الأخرى ما تسرده مصادر روسية عن تهديد واشنطن بكشف الفساد في محيط زعيم الكرملين، وكان ذلك كافيا لوقف هجوم على مدينة ماريوبول الأوكرانية. وبالنسبة للمراقبين الحياديين فإن ترحيب خبراء روس بعودة سعر برميل النفط الخام إلى حدود ستين دولارا لا يعني اقتراب حل معضلات روسيا، إذ أن الناتج الاقتصادي الروسي يساوي تقريبا ناتج مدينة مثل نيويورك.
والأرقام لا ترحم حيث أن مصـاريف حـرب أوكرانيا وضم القرم بلغت 53 مليـار روبل، واحتواء النازحين كلـف 80 مليارا، وقد اقتطعت الدولة 700 مليار روبل من حسابات الناس في المصارف.
في موازاة المتاعب الاقتصادية والخسائر من العسكريين في أوكرانيا رغم الإنكار الرسمي، أتى اغتيال المعارض بوريس نيمتسوف ليزيد حالة الاحتقان، أما الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد الروسي فيخيم عليها ظل عودة التطرف والإرهاب مع ذهاب الآلاف نحو سوريا والعراق.
لمجابهة الضغوط الخارجية واحتمال صعود النقمة الداخلية (تراجع الحريات، تكاثر الفقر، زيادة الإدمان على الكحول والمخدرات، والانهيار الديمغرافي مع موت مليون شخص سنويا، وتسجيل أعلى نسبة جرائم قتل في أوروبا أي 7.9 حادثة لكل مئة ألف نسمة)، يندفع بوتين في ابتزاز العالم حسب معارضيه.
إنه يفهم خطر مغامرات الحرب، وما تهديده باستخدام النووي محليا في أوكرانيا إلا لإدراكه أن أوروبا غير راغبة في العودة إلى زمن الحروب السوداء، ولأن التفسير واضح في أكثر من عاصمة أوروبية وهو الآتي: بوتين يريد البقاء في الكرملين بأي ثمن وهو يواجه صراعا داخليا مع جزء من المؤسسة الروسية والاستخبارات، وهو يعطي الإشارات للجميع أنه لن يسلم الكرسي بسهولة ويصر على البقاء داخل أسوار الكرملين حتى 2024.
في الأرقام أيضا لا مجال للمقارنة بين قدرات حلف شمال الأطلسي (قيمة النفقات العسكرية لدوله الثماني والعشرين 797 مليار يورو في 2015)، وميزانية روسيا العسكرية للعام نفسه البالغة 79 مليار يورو، أي 4.2 بالمئة من الدخل القومي وفق مخطط التحديث العسكري بين 2011 و2020. وفي هذا الإطار تعتبر أوساط الناتو أن إعلان بوتين في 16 يونيو عن تزويد الجيش الروسي بأربعين صاروخا عابرا للقارات لا يمثل جديدا، لأنه سبق للكرملين الكشف عن هكذا تطوير للترسانة الإستراتيجية منذ 2012.
وفي مطلق الأحـوال وحسب هـذه الأوساط تستمر موسكو في احترام سقف “معاهدة نيو ستارت” بخصوص الأسلحة الاستراتيجية الموقعة في 2010. هكذا ينطوي الأمر على تهويل من بوتين يتزامن مع طلعات مقاتلات روسية فوق البلطيق والبحر الأسود وصولا إلى المانش فوق المملكة المتحدة، وحسب التفسير الأوروبي لا يتعدى الأمر حتى الآن استعراض العضلات إذ أن بوتين يبدو مطمئنا لعدم وجود حماس غربي للعودة إلى الحرب الباردة. بالطبع يطمئن القيصر الجديد إذا قرأ استطلاعات الرأي، حيث أن أكثرية من الألمان والفرنسيين والإيطاليين تعارض أي تدخل للدفاع عن بلد عضو في الناتو تهاجمه روسيا (لهذا تتم معارضة دخول كييف الناتو ويجري الاكتفاء بدعمها اقتصاديا دون إرسال السلاح!)، لكنه سيقلق حتما لأن نفس الاستطلاعات تشير إلى أن أكثرية من الأميركيين والكنديين تؤيد تدخلا للناتو ضد اعتداء روسي موصوف. وهنا تبرز أهمية الحزام الأمني الرادع الذي أخذ الناتو يركزه في شرق أوروبا لمنع بوتين من مغامرات أخرى.
في بولندا وبلدان البلطيق تعود القوات الأميركية والأطلسية وتعود مفردات الحرب الباردة حول الردع المتبادل النووي والكلاسيكي، لكن هذا التوتر يبقى تحت السيطرة ويمنع بوتين من ارتكاب ما يشبه المغامرة الخطرة التي ستؤذي بلاده قبل غيرها.
في المقابل يحاول بوتين الاستفادة من نهج باراك أوباما الذاهب في آخر عام 2016 لانتزاع ما أمكن في مساومة محتملة انطلاقا من الملف النووي الإيراني، إلى أوكرانيا وسوريا وكوريا الشمالية.
لكن تصدع الثقة لا يوحي بذلك، ولأن بوتين يلعب على وتر نزعة “ميونيخية” عند الأميركيين والأوروبيين في مواجهة الابتزاز السلطوي والشمولية. وكما قال رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق فرنسوا فيون الذي طالب بالتعامل مع بوتين كما كان ديغول يتعامل مع ستالين.
ينسى المـراهنون على التطبيع مـع فلاديمير بوتين أنه أسهم، بعد ربع قرن من سقوط جدار برلين، في انقسام العالم وأوروبا من جديد من بوابة الحدث الأوكراني، وأن عودة سباق التسلح لن تكون في صالح أوروبا أو من أجـل تحويل العولمة لتكون أكثر إنسانية.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
khattarwahid@yahoo.fr