ظلت البشرية أزمانًا سرمدية وهي محكومة بالتفكير التلقائي ولا تعرف التفكير الموضوعي ولكن بظهور التفكير الفلسفي في اليونان، في القرن السادس قبل الميلاد، تأسس الاتجاه الموضوعي….
التفكير التلقائي هو التفكير الطبيعي، أما التفكير الموضوعي فهو انفصالٌ عن التلقائية وتركيز الانتباه في التأمل والبحث والاستقصاء والفحص والتحليل من أجل الإدراك الموضوعي ومن أجل التحقق….
ولكن لما كان التفكير الموضوعي غير طبيعي وإنما هو انفصالٌ عن التلقائية وتركيز طاقة العقل على موضوع محدد من أجل إدراكه وفهمه ومعرفته معرفةً موضوعية منفصلة عما هو سائد: لذلك فإنه بقي تفكيرًا فرديًّا فلم يتحول إلى تفكير جمعي لا في مكان ظهوره في اليونان ولا في أي مكان آخر. وسيبقى التفكير الموضوعي تفكيرًا فرديا لا يتحقق إلا على مستوى الأفراد وبشكل استثنائي منفصل عن التيار الجاري…..
ثم بقي التفكير الفلسفي الموضوعي لا يظهر إلا بشكل فردي وخارج أي نسق ثقافي…..
ثم حصلت في أوروبا النهضة بواسطة “بترارك” و”بوكاتشو” وغيرهما، ثم ظهر التفكير الموضوعي التجريبي بواسطة “جاليليو” في إيطاليا و”فرانسيس بيكون” في انجلترا، ثم ظهر “ديكارت” مؤسسًا للتفكير الفلسفي في العصر الحديث…..
مع جاليليو وفرانسيس بيكون وديكارت أخذ ينمو التفكير الموضوعي بفاعلية الدعوة إلى القطيعة المعرفية والتركيز على فهم الواقع فهمًا موضوعيا قائمًا على الملاحظة والتجريب والتحقق….
وبعد معارك فكرية وسياسية دامية انتشر التفكير الموضوعي في أوروبا بوصفه المنهج الوحيد لفهم الكون وتسخير طاقاته فنشأت العلوم وانتشرت التخصصات فلا إنتاج ولا نجاح في أي مجال إلا بفهمه فهمًا موضوعيا ….
وبواسطة تعميم التعليم في كل العالم صار كل فرد يعيش بنظامين معرفيين. ففي المجال المهني والوظيفي يخرج الإنسان أثناء الأداء عن التفكير التلقائي ويلتزم قدر الإمكان في تطبيق ما تعلَّمه التزامًا موضوعيا، ولكنه ما أن يخرج من المجال الوظيفي التطبيقي حتى تعود الهيمنة للتفكير التلقائي طبقًا للنسق الثقافي الذي نشأ عليه وتبرمج به. وبذلك فإن العقل البشري ما يزال محكومًا بالأنساق الثقافية المتوارثة باسثناء المجالات العملية التي يضطر فيها الأفراد إلى الانفصال عن تلقائيتهم والانغمار في الأداء الوظيفي الذي يُفترض فيه أنه محكومٌ بالمعرفة الموضوعية…….