من يتابع ردود فعل رئيس النظام السوري بشّار الأسد منذ اليوم الأوّل لإندلاع الثورة الشعبية في بلده، لا يستغرب ترشيح نفسه للإنتخابات الرئاسية، خصوصا أنّه أخذ على عاتقه تدمير سوريا حجرا حجرا على رؤوس مواطنيها.
ربّما كان الأمر الوحيد الذي غاب عن ذهن رئيس النظام تحديده ليوم الثالث من حزيران ـ يونيو المقبل، بدل الخامس منه، موعدا للإنتخابات. كان من الأفضل إختيار يوم الخامس من الشهر نفسه موعدا لتلك الإنتخابات نظرا إلى أنه يصادف الذكرى السابعة والأربعين لحرب الأيّام الستة التي كان خلالها والده حافظ الأسد وزيرا للدفاع في سوريا.
لو إختير يوم الخامس من حزيران موعدا لإجراء الإنتخابات، لكان الخيار سيكون أكثر من موفّق. كان ذلك سيؤكّد أن الإنتخابات الرئاسية الحالية تندرج في سياق واضح المعالم. إنه السياق الذي يسير فيه النظام السوري منذ ما قبل إستيلاء الأسد الأب على السلطة كلها في السادس عشر من تشرين الثاني ـ نوفمبر ١٩٧٠.
منذ البداية، لعب النظام السوري، الذي كان حافظ الأسد ركنا من أركانه دورا أساسيا، بل محوريا، في توريط جمال عبد الناصر في حرب ١٩٦٧ التي لا يزال العرب يعانون من نتائجها حتى اليوم، خصوصا أن الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، ما زالت محتلة مع هضبة الجولان السورية التي لا يزال سقوطها في يد إسرائيل لغزا.
قد لا تتكشّف تفاصيل هذا اللغز إلّا في اليوم الذي يسقط فيه النظام بشكل رسمي بعدما سقط عمليا وصار في مزبلة التاريخ. سقط النظام السوري في اليوم الذي تبيّن فيه أنّه في حاجة إلى ميليشيا مذهبية لبنانية ومقاتلين شيعة يأتون لنجدته من العراق، فضلا عن خبراء ومستشارين إيرانيين وأسلحة روسية… لذبح شعبه.
هل من سقوط أعظم من هذا السقوط لنظام يدّعي حماية الأقليات وينادي بالعلمانية في حين يعمل يوميا على إثارة الغرائز المذهبية التي يعتبرها ضمانة لبقائه في دمشق ومتابعة دكّ المدن والقرى السورية بالبراميل المتفجّرة!
من يستعرض مسيرة النظام السوري، خصوصا منذ استيلاء الضباط العلويين على السلطة في الثالث والعشرين من شباط ـ فبراير ١٩٦٦ يكتشف أنّ لهذا النظام مهمّة محدّدة. أخذ العرب إلى حرب مع إسرائيل كانوا غير مهيئين لها. خسروا الحرب ليكتشفوا أنّ النظام السوري غير قادر لا على السلم ولا على خوض معركة حقيقية من إجل إسترجاع أرضه المحتلة. حتى حرب تشرين (أكتوبر) ١٩٧٣ كانت مجرّد وسيلة لإغلاق جبهة الجولان والتركيز على تدمير لبنان.
كان مطلوبا تدمير لبنان. أدّى النظام السوري المهمّة المطلوبة منه. سلّح الفلسطينيين وسلّح ميليشيات مسيحية في الوقت ذاته كي يقضي على بيروت وكلّ قرية وبلدة لبنانية. وصل به الأمر أن جعل من “جيش التحرير الفلسطيني” يرابط في بيروت ليفصل بين المسيحيين والمسلمين. تلك كانت، في رأيه، مهمّة “جيش التحرير الفلسطيني”…
أراد محاربة كامب ديفيد ومصر إنطلاقا من لبنان. كانت النتيجة أن دمّر ما يستطيع من لبنان وتسبب في الوقت ذاته في إجتياح إسرائيلي عاد بالويلات على الوطن الصغير وما بقي من عيش مشترك فيه، خصوصا بين الدروز والمسيحيين.
لكنّ هذا الإجتياح شتّت المقاتلين الفلسطينيين بعدما لعبوا الدور الذي كان مفترضا أن يلعبوه من وجهة نظر النظام السوري، أي تغيير طبيعة المناطق اللبنانية والتركيبة السكّانية فيها إلى أبعد حدود، مرورا في طبيعة الحال بإضعاف الوجود المسيحي الذي كان يرمز إليه إنتشارهم الواسع في كلّ الأراضي اللبنانية من أقصى الشمال، إلى أقصى الجنوب.
لا داعي إلى الغوص في تفاصيل الحرب التي شنّها النظام السوري على الفلسطينيين، خصوصا على زعيمهم التاريخي ياسر عرفات، رحمه الله، الذي إرتكب أخطاء كثيرة، خصوصا في لبنان، كان معظمها بسبب إضطراره إلى حماية ظهره من ضربات مصدرها النظام المذكور.
لا داعي إلي تعداد الشخصيات التي اغتالها النظام السوري، أو حرّض على إغتيالها وصولا إلى الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ثم اللبنانيين الشرفاء الذين دافعوا عن السيادة والإستقلال.
لا داعي خصوصا إلي تعداد ما ألحقه “حزب الله” من أذى بلبنان واللبنانيين بعدما راهن عليه النظام السوري من أجل تعميق الشرخ الطائفي والمذهبي في البلد ونشر البؤس فيه.
من الضربة شبه القاضية التي تلقاها العرب في ١٩٦٧ وصولا إلى تفتيت سوريا، مرورا بتدمير لبنان عن طريق السلاح غير الشرعي ومصادرة القرار الفلسطيني، يتابع النظام المهمّة الموكولة إليه.
من يترشّح مرّة جديدة للإنتخابات الرئاسية، إنّما يسعى إلى إستكمال مهمّة سدّ كل الأبواب أمام مخرج يجري البحث عنه لإنقاذ سوريا، أو ما بقي منها، عن طريق هيئة أو حكومة إنتقالية تسمح بالتفكير في مستقبل البلد.
المفارقة أنّ هناك ما يربط بين هزيمة ١٩٦٧ من جهة ،الإصرار على دعم النظام في عملية ذبح شعبه من جهة أخرى.
هذا الرابط هو موقف موسكو. من جرّ العرب وشجّعهم في العام ١٩٦٧ على إرتكاب حماقة التفكير في الحرب كان الإتحاد السوفياتي. لم تقم موسكو وقتذاك بأي خطوة تستهدف توعية النظام السوري إلى خطورة إيّ مغامرات عسكرية وأنّ هذه المغامرات لا يمكن أن تصبّ في نهاية المطاف سوى في خدمة إسرائيل وتطلعاتها وتحسين موقعها التفاوضي وحتّى العسكري.
في السنة ٢٠١٤، نجد روسيا التي خلفت الإتحاد السوفياتي أشدّ المتحمسين لبقاء بشّار الأسد في السلطة. هل من جريمة أكبر من جريمة دعم نظام لا يتردد في إستخدام كلّ الأسلحة المتوافرة لديه في عملية تدمير ممنهجة للمدن والقرى السورية وقتل الناس؟
من الضروري التوقف عند هذه المفارقة، خصوصا أن الموقف الإيراني الداعم بكلّ الوسائل للنظام السوري أكثر من مفهوم. فإيران، وهذا ليس سرّا، تراهن على إثارة الغرائز الطائفية لتفتيت العالم العربي.
ولكن ماذا عن روسيا ولماذا هذا الإصرار على أن النظام السوري “شرعي”. أوليس ذلك الطريق الأقصر للإنتهاء من الكيان السوري الذي عانى من أزمة عميقة منذ اليوم الأول لقيامه. هل يكون الإنتهاء من الكيان المهمّة الأخيرة الموكولة للنظام بدعم روسي ومباركة إيرانية لها ترجمتها على الأرض عن طريق الميليشيات المذهبية الآتية من لبنان والعراق وإيران نفسها؟