ربما في مصر، دون غيرها من بلاد العرب، تنفد بعض الكتب بعيد صدورها، ويضطر الناشرون إلى إعادة نشرها في طبعات متلاحقة. وهذا ما حدث مع رواية “باب الخروج” لعز الدين شكري فشير، الصادرة عن دار “الشروق” المصرية، والتي صدرت طبعتها الثانية قبل أيام، ومن المرجّح أن تعقبها طبعات. هذا، على الرغم من حقيقة أن الرواية نُشرت على حلقات في صحيفة يومية قاهرية قبل أشهر مضت.
أما سر الإقبال على الرواية فيتمثل في حقيقة أنها سيناريو متخيّل لمصائر وتحوّلات الثورة المصرية حتى نهاية العام 2020. وبقدر ما أعرف، لم يحاول أحد من الروائيين حتى الآن الدخول في مغامرة من هذا النوع.
بيد أن التفرّد في هذا الشأن لا يكفي لرفع نص بعينه من باب التأملات الأدبية، أو التحليل السياسي المتأدب، إلى مقام الرواية. وما يحسب لشكري توظيفه لما يحدث الآن وهنا، وما يمكن أن يحدث غداً، في سياق أسئلة كونية وإنسانية عامة، تفسّر الحدث المصري، لكنها تتجاوزه بقدر انخراطها في الشرط الإنساني العام: ما هي الثورة، أخيرٌ هي أم شر؟ وهل تتغيّر الأشياء، فعلاً، أم أن المصادفات والمفارقات والأقدار الغامضة لا تكف عن التلاعب بمصائر بني البشر؟
لن يتمكن أحد من طرح أسئلة كهذه في رواية دون الابتعاد مسافة كافية عن الحدث نفسه. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، التحرر من الاستيهامات الخلاصية، والتفكير الرغبي، وقراءة الواقع بقدر من “تشاؤم الذكاء”، إذا ما استخدمنا الشطر الثاني من معادلة ذائعة الصيت لغرامشي.
وفي هذا المعنى تتخلّق صورة عقد من الفوضى والاضطراب، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، قبل أن يلوح ضوء في نهاية النفق. “الضوء”، وبالطريقة التي انتهت بها الرواية، من عدة السرد الروائي لا النبوءة السياسية، طالما أن النص الروائي (مطلق نص) مفتوح دائماً على مستقبل ما، بصرف النظر عما يكتنفه من غموض.
لتحقيق هذه الأشياء، وغيرها، استعان شكري بتقنية سردية تقليدية هي كتابة الرسائل. وهذه، في الواقع، إلى جانب الوثيقة، والمخطوطة، والمذكرات الضائعة. الخ، من أكثر التقنيات السردية طواعية وانتشاراً منذ رواية القرن التاسع عشر وحتى يوم الناس هذا. فهي تُمكِّن الكاتب من إنشاء عالم متعدد الأبعاد، بتقنيات سهلة، وتمنحه قدراً أكبر من الحرية وراء قناع الراوي.
وقد حقق شكري هذا الأمر، مع ملاحظة أنه استعان برسالة طويلة واحدة كوّنت الرواية، ولم يحاول إخفاء وجه المؤلف بقدر ما حاول خلق أوجه محتملة للشبه بينه وبين شخصية أخرى تقوم مقام الأنا الأعلى للفاعل الروائي الرئيس.
وفي السياق نفسه أوهم القارئ من خلال عدد من الإحالات البيوغرافية، والتلاعب بالأسماء، بإمكانية العثور على ملامح مشتركه بين تلك الشخصية والمؤلف نفسه. ولعل في إحالات كهذه ما يحيل بدوره إلى ما يسم التساؤلات الفكرية والوجودية لسيناريو العقد الأوّل بعد الثورة من التباس وتعقيد.
يتجلى هذا السيناريو في رسالة (سيرة حياة) يكتبها مصري على ظهر سفينة في بحر الصين العظيم لابنه، قبل أربع وعشرين ساعة من هجوم البحرية الأميركية على السفينة، التي تحمل رؤوساً نووية في طريقها إلى مصر. صاحب الرسالة هو مَنْ أفشى سر الشحنة للأميركيين، والرسالة مرافعة عن معنى الخيانة والوطنية، والخير والشر. وهي، في جانب منها، أيضاً، مرافعة عن معنى السلبية والفعل، ووظيفة الضمير، في أزمنة التحوّلات التاريخية العاصفة والكبرى.
يشتغل صاحب الرسالة (الفاعل الروائي الرئيس) مُترجماً لدى الرئاسة. الترجمة باعتبارها وظيفة رسمية تُخرج كل فكرة محتملة عن السلبية والفعل، ووظيفة الضمير، من دائرة المُفكر به. بينما الأنا الأعلى، الصديق التوأم، يشتغل أستاذا للعلوم السياسية، ويملك تصوّرات مثالية لما ينبغي ولا ينبغي أن يكون.
تنتهي التصوّرات، كما يعلم القارئ، بكارثة تعيد إلى الأذهان مقاطع مُظلمة في تاريخ الثورة الفرنسية. وثمة ما يكفي من الغواية للقول إن الفاعل الروائي وأناه الأعلى يمثلان، في الواقع، كينونة واحدة تنقسم على نفسها، بلا قطيعة، ولا قطع للحوار بين فكرتي الجدوى والمعنى، ونسبية الصواب والخطأ. الانقسام بين الفاعل وأناه الأعلى مكرر، أيضاً، في الانقسام بين فئتين من المواطنين لا تعرف كلتاهما الكثير عن الأخرى.
ومن حسن الحظ أن شكري لم ينشغل بمرافعات فلسفية مطوّلة، بل وظّف المادة الخام، المألوفة لمتابعي الأخبار على شاشة التلفزيون، من صعود للإخوان والسلفيين، إلى استمرار التظاهرات والاضطرابات، ومن خوف الأذرع الأمنية والعسكرية المختلفة من تفكك الدولة، وفقدان مركز الأولوية، إلى فشل النخب السياسية التقليدية والمُستجدة في التوصل إلى تفاهمات تخرج البلاد من المأزق. وإلى كل ما نعرف أضاف ثورة ثانية، ومزالق سياسية متلاحقة وجديدة.
وفي هذا المعنى تشكّلت من المادة الخام مجابهة جديدة مع إسرائيل، وتحوّلت مصائر ما لا يحصى من المواطنين إلى جزء من لعبة السلطة، وكيفية الوصول إليها، والبقاء فيها، من جانب طامعين ومغامرين وحالمين، بما في ذلك الدخول في مغامرات نووية، تُنذر بنهايات قيامية، لصرف النظر عن مشاكل داخلية مستعصية.
ومن حسن الحظ، مرّة أخرى، أن هذا كله يحدث بطريقة تحقق مبدأ الإمتاع والمؤانسة، الضروري لكل أدب جيد، ولكل عمل ينجح في جذب اهتمام القارئ، والحفاظ عليه من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة.
وإذا كان من الصعب وصف “باب الخروج” بالملحمة الروائية، إلا أنها رواية كبيرة ومدهشة تنتمي إلى ما يمكن وصفه بالأدب القاسي، الذي لا يرشو القارئ بالأوهام، بقدر ما يمكّن الكاتب أن يرى في الواقع ما يريد، خاصة إذا كان ما يرى مشروطاً بأسئلة كونية، وتساؤلات عن باب للخروج. قد نخسر مع الأدب القاسي قدراً من البراءة الحقيقية أو المتوّهمة، لكن الأدب العربي يربح، بالتأكيد.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني