كلما فكرت في الواقع الكويتي تساءلت عن الطريق. فهناك حتى الان ضياع في الاتجاه. ولو وقف اي منا متفكرا في الوضع نجده يندفع بصورة تلقائية لحالة من الحيرة. الحيرة تأتي من منابع عدة ترتبط بصدام المجلس مع الحكومة وتردي الخدمات وتراجع التنمية وهجرة نسبة كبيرة من الشركات. كل حالة تمثل معضلة وتخلق حالة قلق من المستقبل.
لقد فرح الناس او قطاعات كبيرة منهم من جراء تمرير البرلمان الكويتي لقانون الغاء فوائد القروض الاستهلاكية عن المواطنين، وبدأ البعض يحضر نفسه لقرض جديد او لزيادة القرض بنسبة الفوائد التي ستلغى. لكن ما وقع من تصويت على الغاء فوائد القروض غير قابل للتطبيق العملي والواقعي. هكذا ستجد الحكومة انها مضطرة لرد القانون وعدم اقراره في اطار حقها الدستوري.
ان قانون اسقاط القروض الاستهلاكية عن المواطنين قد يؤدي في حال تطبيقه الي اطلاق رصاصة الرحمة على مستقبل الكويت الانتاجي والاقتصادي والحيوي والتنموي. سيكون هذا القانون طريق الكويت للتآكل الاضافي نسبة لما وقع من تراجعات في السنوات الماضية.
لقد مثل التصويت انفصالا بين موقفين، الموقف الاصعب هو الموقف الشجاع للنواب والنائبات الرافضين للقانون القاضى باسقاط فوائد القروض الاستهلاكية عن جميع المواطنين. ان موقف النواب المعارض لتوجه شعبي من اصعب الامور. ان النواب الذين صوتوا ضد اسقاط فوائد القروض صوتوا لصالح المواطن حتى لو اعتبر المواطن ان تصويتهم عكس ذلك. فهم في سلوكهم الانتخابي لم يضللوا المواطن حول الممكن وغير الممكن، وساهموا في موقف صادق مفاده الحرص على حماية الاسس التي يقوم عليها الاقتصاد الكويتي الراهن والقادم.
التصويت الذي تم منذ ايام يعكس طبيعة المأزق الذي دخلت به البلاد. فالدولة والحكومة في الكويت تعمل في الاونة بنسبة أعلى من الجدية. فالفريق الحكومي الراهن بما يمثل من خبرات هو طاقم اكثر قوة وحنكة من حكومات سابقة، لكن من جهة اخرى تعمل الحكومة في فراغ وتحاط باليات ضعيفة. فمؤسسات الدولة تعيش حالة تفكك، اكان ذلك مرتبطاً بطرق التعين والتوظيف والترقية او بطرق تطبيق القوانين. فهناك الوف المواطنين ممن لا يذهبون لاعمالهم في الكثير من مؤسسات الدولة وذلك ضمن البطالة المقنعة السائدة في البلاد والتي تجعل الحكومة رب العمل الاول حيث يعمل فيها ما يقارب التسعين بالمائة من المواطنين. كل ذلك لا زال من عصر سابق. فالكفاءة ليست المعيار الاساسي في الدولة، والانتاجية ليست الجوهر، والتنمية لا تمتلك اليات حقيقية للتطبيق. وبينما تطرح الحكومة شعاراُ كبيراُ في تحويل الكويت لمركز مالي وتجاري، تبدو الممارسات منفرة للاستثمار والمستثمرين، كما ان الدولة وموظفيها الكبار وقياداتها الوسطى لا زالت في اسلوبها تعيش حالة شك وخوف وريبة تجاه القطاع الخاص. لا زالت دولتنا ومؤسساتها وموظفوها في معظم الحالات في مرحلة ما بين الاشتراكية القديمة وبين اوضاع العالم الثالث. ان التحول لمركز مالي وتجاري سوف يتطلب عمليات جراحية كبرى في الكويت، والدولة بصيغتها الراهنة غير قادرة على القيام بهذه المهمة الصعبة.
ولو جئنا للبرلمان لوجدنا آمراً آخر يصب في تطور الازمة. فلدينا برلمان يريد ان يركض وراء ابسط واصغر المطالب النقابية للناس حتى لو كانت هدرا للاقتصاد الوطني والتعليم والمستقبل. لو طرح الناس (على سبيل الخيال) الغاء المدارس قد تتحول لقضية عامة ويلحق البرلمان ذلك المطلب. لو طرح الناس الغاء معايير الشهادة، هل تكون الكويت اول دولة في العالم تلغي معايير الشهادة حتى يفوز عضو مجلس الامة في انتخابات قادمة؟ هذه اسئلة خيالية، لكن اليس بعض مما نشاهد يسير بهذا الطريق؟ اليس فصل البنات عن الاولاد في التعليم الجامعي احد الامور التي ساهمت في تراجع جامعة الكويت والجامعات الخاصة؟ على الاعضاء ان يتساءلوا عن الامر العادل والمنصف والتنموي الذي يصب في تطور البلاد قبل ان يطرحوا قوانين معادية للذات والمستقبل؟ اليس هذا سؤالاً اساسياً نسألة في التعامل مع القوانين؟ وهل للنائب دور في مساعدة الجمهور على التفرقة بين المصلحة القريبة الامد والمصلحة البعيدة الامد، بين التضحية الآن من اجل مكاسب غدا؟ هل تخلى بعض النواب عن دورهم القيادي في تطوير المجتمع وتغير قناعات الناس حول العمل والانتاج والاستثمار والوظيفة؟
الواضح ان مجلس الامة هو الآخر ضلّ الطريق. هذا لا يعني على الاطلاق ان كل عضو في المجلس ضل الطريق، فهناك نواب يقاتلون باستمرار من اجل الارتقاء بالبلاد الى افق اخر يجعلها قادرة على المنافسة والتطوير والتنظيم والتحول لمكان يعج بالتنمية الانسانية. لكن طريقة عمل المجلس جعلته يعيش صراعا حول كل قضية. فمن خلاله تتم الضغوط لمنع الكتب في الكويت والامعان في الرقابة (كل كتاب مُنِع في الكويت موجود على الانترنيت بالكامل). ومن خلاله وقعت الضغوط لمنع د. نصر حامد ابو زيد من دخول البلاد. ومن خلاله تم فصل البنات عن الاولاد في جامعة الكويت والجامعات الاخرى. ومن خلاله يطرح فصل البنات والاولاد في المدارس الخاصة ذات المناهج الاجنبية. المجلس الان في فوهة المدفع، يتحدي النظام السياسي على كل شيء وعلى كل امر، اكان الامر ذأ معنى واهمية وفائدة للبلاد او كان مضرا للبلاد وقاتلا لها. هنا تقع المعضلة الاكبر.
ان هذا التوجه في مجلس الامة سوف يخلق مع الوقت مزيدا من الاعداء للديمقراطية في الكويت. فبين ضعف العمل الحكومي، وتشتت العمل البرلماني يتجمد صنع القرار في الكويت، وتتجمد التنمية، وتتأخر البلاد. ومنذ ايام قليلة تحدث سمو الامير عن الوحدة الوطنية مطالبا بتقديرها وتحقيقها. لكن الواضح ان كل صدام بين المجلس والحكومة وبين اعضاء في المجلس واعضاء في الحكومة يتحول لمواجهة تساهم في شق الوحدة الوطنية. وذلك لان الاختلاف ذو درجة نوعية وليس على الكم. الاختلاف في الكويت ليس كالاختلاف بين الحزب الديمقراطي والاخر الجمهوري في دول ديمقراطية، بل انه كالاختلافات الاكثر حدة التي نشاهد بعض منها في دول مجاورة.
ان السلطة في الكويت لم تعد بيد الحكومة لوحدها، ولا هي بيد البرلمان لوحده. بل ان السلطة بيد الاثنين. وبما ان الاثنين مختلفان في الرؤية والتوجه فالصراع المستمر يهدد البلاد على اكثر من صعيد. ان توحيد الرؤية لن يكون ممكنا في ظل الاجواء البرلمانية والاجواء السياسية في البلاد. فبإمكاننا ان نتنبأ الان بأن الصدام بين الحكومة والمجلس سوف يبقى في حالة دائمة وفي حالة امتحان قوة لا نهاية له.
سنصل لمرحلة حساسة فيها اكثر من احتمال.
احد الاحتمالات ير مالستعبدة الآن ان يقوم البرلمان بتشكيل حكومة فتتحول كل السلطة للبرلمان. لكن هذا يتطلب قانوناً للاحزاب وموافقة الاسرة الحاكمة في الكويت على هذا الترتيب. وهذا سيناريو لن يتم بلا صراع ومواجهات قد لا تكون محمودة العواقب. انها مجازفة كبيرة يدفع البعض باتجاهها بلا وضوح لما ستكون عليه الاحوال بعد ذلك. ونتساءل: لو قام البرلمان بتشكيل الحكومة فماذا ستكون القرارات؟ هل ستكون الغاء القروض، تدمير الاقتصاد، اسلمة القوانين، تحجيب النساء، فصل النساء عن الرجال في المطاعم، منع العمل للمرأة في بيئة مختلطة؟ هل ستعني سلطة البرلمان بروز اوليفر كرومويل كويتي يسعى لـ”طلبنة” البلاد؟ الم يقع هذا في بريطانيا ويؤدي لتخلفها قبل ان تنتفض ثانية ضد المتدينيين التطهريين الذين فرضوا اكثر القوانين تعسفا على المجتمع؟
اما السيناريو الثاني ذو الطابع الشرعي فهو الحل الدستوري الذي يعني انتخابات مبكرة. والهدف من الحل الدستوري فرض التراجع على المجلس وتخفيف هجومه على الحكومة.
لكن هناك سيناريو ثالثاً تتكثف السُحُب حوله ويزداد قوة وهو محاولة إعادة عقارب الساعة للوراء من خلال القيام بحل غير دستوري اساسه تعليق الدستور او بعض مواده والغاء الحياة السياسية لفترة مؤقتة قد تمتد لاربع سنوات. هذا الحل غير الدستوري هو الآخر يحمل في طياته أفقاً غير معلوم وقد يكون مدمرا للبلاد.
ان السيناريو الافضل والارقى والاسلم للبلاد هو، برأيي، السيناريو الرابع والذي ينطلق من ثقافة الاتفاق على رؤية وسياسة عامة في ظل الاختلاف.
هذا السيناريو يجب ان يتضمن سعي البرلمان للتهدئة وسعى الحكومة لرفع سيف الحل غير الدستوري. بإمكان هذا السيناريو ان ينطلق من تخفيف اندفاعة المجلس والتفكير بعقلانية وتعاون عند التعامل مع القضايا الاساسية. يجب ان تكون المسألة الاساسية بالنسبة للمجلس التشريع لكويت اكثر عصرية ولكويت تحترم حريات مواطنيها وحقوقهم، بينما تقوم الحكومة برفع مستوى الكفاءة واصلاح حالها الاداري في الاجهزة والمواقع. الكويت بحاجة لمشروع يتفق عليه الجميع ويأخذها بعيدا عن الغرق في عاصفة محلية لا تفيد ولا تغير من حال.
بين السيناريوات الاربعة تتفاعل البوصلة اليومية للسياسة في الكويت.
• استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت