إن الأحداث المتتالية والمتسارعة التي يعرفها المغرب تضعنا أمام سؤال بسيط وممتنع : إلى أين يسير المغرب ؟ بالتأكيد أن المغرب يسير عبر مسارات متعددة ومتناقضة، منها مسارات اختارها المغرب عن وعي وبإرادة من قواه الحية. بينما أخرى زًج به في سراديبها كرها واضطرارا.
1 ـ أما المسارات التي تدخل ضمن الاختيارات الإستراتيجية للمغرب التي اختار السير في اتجاهها، فيمكن التركيز على التالي :
أ ـ خيار الديمقراطية بما يعنيه من تعددية فكرية وسياسية ونقابية وجمعوية. وهذا الخيار كان مكلّفا لكنه بنّاء استطاع التأسيس لتجربة سياسية متميزة ومتفردة في عالمنا العربي/الإسلامي وعموم الدول التي عاشت ظروفا سياسية شبيهة بتلك التي عرفها المغرب بين الستينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
وانتهت هذه الحقبة المطبوعة بالتوتر والصراع على السلطة، بالإنصاف والمصالحة وطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بعد جبر الضرر لفائدة الضحايا وذوي الحقوق؛ علما أن تجربة جنوب إفريقيا لم تتوج بتسليم التعويضات لفائدة الضحايا بخلاف تجربة المغرب.
ب ـ خيار الانفتاح السياسي والثقافي والإعلامي الذي جعل المغرب بلدا منفتحا يرفض الانغلاق والتحجر. ومن ثم غدا المواطن المغربي متسامحا بطبعه ميالا إلى التعايش مع غيره.
ج ـ خيار الحداثة الذي قطع فيه المغرب شوطا هاما في اتجاه تحديث هياكل الدولة وبنيات المجتمع. ويعتبر قانون الأسرة /مدونة الأسرة إنجازا هاما يكرس قيم الحداثة وثقافة حقوق الإنسان. فهذه المدونة تأسست على مبادئ كونية في مقدمها بدأ المساواة بين الزوجين في الواجبات والحقوق، مما يضمن للمرأة إنسانيتها ويصون كرامتها التي كانت قوانين الأحوال الشخصية تجيز المس بها أو مصادرتها. فضلا عن باقي التشريعات التي تهم حقوق الطفل وغيرها من الحقوق المدنية والاقتصادية.
2 ـ أما المسارات التي أًكْـرِه على الدخول فيها فتتعلق أساسا بـ :
أ ـ الفساد المالي والإداري : بالتأكيد أن المجهود الذي تبذله الدولة في محاربة مظاهر هذا الفساد وأسبابه ظل مجهودا محدودا في نتائجه وآثاره. ذلك أن القضايا المتعلقة بالنهب والاختلاس والتبذير لم تفتح فيها تحقيقات جدية والدفع بها إلى المدى النهائي، أي عرضها على القضاء. إذ على الرغم من القرار الهام الذي اتخذته الحكومة والقاضي بإلغاء محكمة العدل الخاصة حتى لا يظل التمييز بين المواطنين على مستوى نوعية القوانين والجهات القضائية التي من شأنها البت في جرائم النهب والاختلاس، رغم أهمية هذا القرار والذي من المفروض أن تواكبه إرادة حقيقية مشفوعة بحزم لا يلين وحرص شديد على صيانة المال العام وحقوق الدولة، ظلت ظاهرة النهب والفساد مستشرية كما لو أن التشريعات القانونية لا يراد لها التطبيق والسريان. وهذه مفارقة لا يمكن للمواطن العادي أن يستسيغها، بل يجد في نفسه غصة وغبنا لما يقارن بين فاعلية القوانين وسرعة تطبيقها وتنفيذها حين يتعلق الأمر بالجنح العادية، وبين لاجدوى القوانين وشلل الجهات المعنية بالشأن العام التي يظهر عجزها واضحا للمواطنين أمام الأطراف المسئولة عن النهب والتبذير. فالأمر ـ في حالة العجز والشلل هذه ـ لا يعود إلى قوى أجنبية شريرة تدعم الفساد وتحميه، بل يعود إلى الافتقار إلى إرادة سياسية قوية لدى الحكومة لطي صفحة الفساد والنهب بعد معاقبة المفسدين واسترداد حقوق المجتمع والدولة والأفراد، كما فعلت مع عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. بمثل تلك الشجاعة التي واجهت بها الدولة ماضي الخروقات، عليها أن تواجه واقع الفساد والنهب والتبذير بكل وعي ومسئولية وحزم. إذ لا ازدواجية في القضاء ولا امتيازات في القوانين ولا مفاضلة بين المواطنين. ودولة الحق لا تقوم أبدا على الإخلال بالواجب وخرق القوانين وتعطيلها. إن هذا المسار وإن أًكره المغرب على دخوله لأسباب تاريخية وسياسية، فإن الاستمرار فيه لا يعفي الحكومة والقوى الحية من مسئوليتها الوطنية والأخلاقية.
ب ـ الجريمة المنظمة في شقيها:
* الإرهاب الذي تتناسل خلاياه يوما بعد يوم. الأمر الذي يبعث على القلق الحقيقي بسبب الأبعاد الخطيرة التي يأخذها الإرهاب الذي تمارسه التنظيمات المتطرفة. إذ لا تمر مدة وجيزة حتى تكتشف الأجهزة الأمنية مخططات إرهابية أشد فتكا من سابقاتها. وبات واضحا ويقينا أن المغرب يواجه أنواعا من هذه المخططات تختلف من حيث مداها ـ آنية، قصيرة المدى، متوسطة المدى، بعيدة المدى ـ لكنها تلتقي في هدف مركزي هو الترويع والقتل وزعزعة الاستقرار. وإذا كانت الدولة، في فترة الصراع الإيديولوجي الذي غطى حقبة ما سمي بالحرب الباردة، بادرت إلى الإشراف ودعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة بهدف فتح المواجهة بين دعاة وحاملي المشاريع المجتمعية النقيضة قصد خلق حالة التوازن والتحكم فيها ليسود النموذج الذي أرادته الدولة وإن كانت آفاقه السياسية والاجتماعية محدودة، فإن خيوط التحكم في إنتاج فكر التطرف وثقافة القتل وعقائد التكفير فقدتها الدولة بغير رجعت، وباتت منظمات دولية وجهات خارجية هي من تتحكم في صناعة وترويج عقائد التفجير والقتل على نطاق عالمي. وتحول الإرهاب من صناعة محلية تخضع إلى خطر عابر للقارات. فلم يعد الإرهاب حبيس أسوار الجامعات، كما أن مخططاته لم تعد مقتصرة على استهداف حياة أفراد بسطاء ليس لهم في العير ولا في النفير سوى آراء وأفكار قلّ من يكترث إليها. وما كشفت عنه التحقيقات الأولية فيما يتعلق بخلية “بلعيرج” يضع الجميع ـ الدولة، الأحزاب، المجتمع المدني، عموم المواطنين ـ أمام خطر حقيقي لن يترك مجالا للتردد بين خيار المواجهة وموقع المهادنة أو التفرج. لقد حان الوقت ولزم الأمر أن نقطع مع ثقافة معاداة الدولة والعمل على إضعافها بكل السبل. إن الاختيارات الكبرى التي حددها المغرب لنفسه وبتوافق بين قواه الحية، تضع المغرب بين مشروعين مجتمعيين على طرفي نقيض: المجتمع الحداثي الديمقراطي الذي يتأسس على دولة الحق والقانون وتكون السيادة فيه للشعب، وهو المشروع الذي انخرط فيه نظامنا السياسي وكل القوى الديمقراطية، بحيث لا تفوت فرصة إلا ويؤكد الملك على دفاعه عن هذا المشروع المجتمعي وتصديه لكل القوى الهدامة والظلامية التي تناهض هذا الخيار. ويقابله المشروع المجتمعي الاستبدادي والظلامي الذي تحمله قوى التكفير والتفجير والتبديع والتحريم. إنها القوى التي تسعى لبعث الروح في أنظمة الاستبداد التي قطعت معها البشرية قرونا عدة. أنظمة أشد فتكا بالبشر باسم “الحق الإلهي” حيث لا مجال لأبسط حقوق الإنسان.
* المخدرات التي باتت تشكل خطرا حقيقيا على أمن المغرب من مستويات عدة أقتصر على اثنين منها:
أ ـ تهريب الأسلحة والاتجار بها مما يوفر مصدرا مضمونا للتنظيمات الإرهابية لما لتجار الأسلحة من ارتباطات بعصابات الجريمة المنظمة.
ب ـ اختراق المجتمع ومؤسسات الدولة من مداخل سياسية واقتصادية ومالية تضر مباشرة بالمصالح العليا للوطن.
selakhal@yahoo.fr
الدار البيضاء