المتظاهرون المصريون، ومن قبلهم التونسيون، ومن بعدهم اليمنيون والجزائريون والعراقيون السائرون على دربهم، يختلفون عن المتظاهرين الذين اعتدنا مشاهدتهم على الشاشة في العقد الأخير، خصوصاً بعد 11 سبتمبر 2001. لقد طوى هؤلاء صفحة المتظاهرين الهستيريين، الحاقدين على الدنيا، المتوعّدين بالموت والموعودين به، الممْعنين بإحراق أعلام بلاد أخرى… الأرجح أن هذه الصورة للتظاهرات العربية لن تعود إلى الشاشة. انتهى عهدها، كما انتهى عهد احتكار الإسلام السياسي، خصوصاً المتطرف، للمعارضة السياسية، وكل ما رافقها من رثاثة لصور جماعته وأنصاره ومتظاهريه.
متظاهرو العهد الجديد يرفعون الأعلام، لا يحرقونها؛ وهم ذوو هندام محترم، وإن تواضع، وشحنة جسدية، غاضبة، لكن غضبها مصوّب نحو هدف تاريخي تحدس أنه مرتفع. «إسقاط المستبد»: تنشدّ إلى الشعار الأجساد صعوداً، لا هبوطاً ولا التواء. غضب عفوي، آتٍ من شقاء مفْعم بأدق تفاصيل الحياة. عضب محمول على سعي وحيد: الحرية. من الحرية في التعبير التي يمارسونها الآن، برفع أصواتهم، مشتركين، ضد النظام ورئيسه… إلى الحرية التاريخية بفتح صفحة جديدة من سردياتنا المتعثرة المضطربة.
المطالِبون بهكذا حرية هم أناس جُدد. قد يكون من بينهم من شارك في تظاهرات العهد المنصرم الهستيرية، لكن شيئاً ما غيّرهم، سحر هذه الثورة، سرّ هذه الثورة، العميق حتى الآن.
الوطن المحدّد، المعروف لدى القوميين بالـ»قطر»، ويسميه بعض الموتورين «الوطن المسخ»، هذا الوطن هو الأشد حضوراً في أرواح المتظاهرين وحناجرهم وشعاراتهم وأعلامهم. نتآلف الآن مع هذه الأعلام، التونسي والمصري، الآن اليمني والجزائري… والباقي قادم… لكل حدث عَلَمه الوطني، «القطري». لم يعد هناك من شك: حب الوطن من حب الحرية. وبالعكس أيضاً.
ما الذي يجعل المنادين باسقاط الاستبداد والفساد وبإقامة حكم ديموقراطي يرتبطون بأطاونهم بهذه التعبيرات الساطعة؟ هل تقية الاخوان المسلمين وحدها تجيب على السؤال؟ طبعاً لا، فالاخوان أنفسهم تغيروا في هذه الثورة، يوماً بعد آخر، وشبابهم يقودون عملية التفاعل مع التنوع الذي وجد أثناء حدوثها.
قبل ذلك، كان «الوطن» العاطفي الشاعري، والوطن العقلاني، البراغماتي. الأول تدهورت قيمته في العهد السابق، إلى حدّ أنه صار أضحوكة السينيكيين، وانجر وراءهم المنتفعون من انحطاط مغزاه. فيما الثاني، العقلاني… ابتلعته الانتماءات الأخرى، الدينية خصوصاً، التي وضعت الحلال/الحرام المدعومة من الاستبداد، بوجه القانون وحكم القانون، المفكّك أصلاً؛ مهدّدة بذلك أسس دولة القانون. لا أعرف إن كانت هيمنة الحلال/الحرام قد سقطت في هذه التظاهرة الواضعة نصب أعينها الوطن «القطر»، أو سقط جلها مع سقوط الاستبداد، ولكن الأرجح أن حرية مناقشتها، وتحرّر هذا النقاش من الثنائي الجهنّمي استبداد ـ مزايدة، سوف يزيلان خطرها على الوطن.
إذاً، ما سرّ هذه العلاقة الحميمة بين الوطن والحرية؟ بين الحب الفائض للوطن وبين الطلب على الديموقراطية؟ ربما وحدة الحال من البؤس والقهر على امتداد حدوده المتعارف عليها؛ فكان حب الوطن من طرد المستبد، موحّداً هذين القهر والبؤس. ربما، أيضاً، لأن الوطن هو المكان الممكن لإزاحته، لا جبال تورا بورا، ولا الأمميات أو العروبيات. ربما لأن الطاقة الايجابية التي نفختها الثورة المصرية بصانعيها هي، ببساطة، الحب، لا الكراهية؛ فكانت طاقة جبارة.
كل الإجابات هي في خانة الاحتمال، لكن المؤكد أن الذي فجر هذه الطاقة، أشعل فتيلها، هم شباب معولم، يجلس ساعات أمام اللاب توب، مولع بالشبكة الالكترونية، بعالمها اللامتناهي، وقدرتها على التواصل والتنظيم. شباب معولم إذن، لكنه يحب وطنه حتى الموت.
هذا الخليط من الوطني والسوبر تكنولوجي يدحض الاستخدام الوظيفي البحت للتكنولوجيا الذي مارسته فصائل الإسلام السياسي، خصوصاً «الجهادية»، المسلحة منها. فهذه الأخيرة، عملاً بمقولة الإسلام السياسي التاريخي، «سخرت» التكنولوجيا لأهداف الأصالة والتقليد. أما شباب الثورة، فترافقت عندهم الاستخدامات التكنولوجية للشبكة وتبنيهم للأفكار والمسالك التي تنضح منها، مع الشق الآخر، التقليد، الذي كان بدوره محركاً وملهماً وباعثاً على الشجاعة والصبر. الدين في أول اللائحة؛ قبل أيام فقط كانت الفتنة الدينية تزحف مهدّدة. إما في الثورة، فقد اختلط أبناء الديانتين بنوع من التآخي لم يكونوا يحلمون به… مهما قالت الأناشيد والصور. الدين في هذه الثورة كان شيئاً آخر: في اليوم ما قبل الأخير من تنحي مبارك، وفي لحظة كاد اليأس أن يعمّ، كانت صلاة جمعة، وكان دعاء إلى السماء «يا الله! يا الله!»… أين هذا الدعاء الشاحذ للهمم المؤمن بأن السماء سوف تعين صاحبه على صناعة قدر مشرق… أين هو من دعاء ركوب السيارة أو مباشرة الامتحان أو ايجاد عريس أو… الذي لا يثق بالغد، المسلم به تسليم اليائسين العاجزين؟
الدين ليس وحده؛ الوطنية المصرية التي انعشتها هذه الثورة أنعشت ايضاً تقليداً كانت سنوات الاستبداد الطويلة قد غيبته، وجعلت التقليد حكراً على الإسلام. إنها التقاليد المصرية البرلمانية العريقة، التي عرفها المصريون منذ قرنين، قبل غيرهم من الشعوب العربية. تقاليد الملاذ الحر للهاربين من البطش العثماني وللباحثين عن حرية للفكر وللصحافة. نسينا أنها هي أيضاً تقاليد؛ ما يكشف أن الذاكرة كانت رهينة التلاعبات التي وجدت في الاستبداد أرضاً خصبة لنسيان أشياء وتذكر أشياء.
الثورة جمعت الأصالة والحداثة، والما بعد حداثة، صهرتهما في بوتقة وطنية واحدة، فكانت واحدة من روافد نهرها العريض. من بعد الثورة، سوف يتوقف الكثيرون عند بداياتها وتفاصيلها ومحركاتها وآلياتها. لن يكون النقاش بعد اليوم مع أو ضد الحداثة او ضد التقليد؛ بل ما هي ملامح التقليد والحداثة اللذين صاغتهما الثورة في متنها؟ أو، كيف صاغتهما؟ أو، ما هي الوجوه التي سوف ترسمها أثناء انجاز الثورة لمراحلها المختلفة؟
أخيراً، الأدوار. طبعاً الشباب والشعب المصري بأسره وبكل فئاته، كان له الدور الأعظم في انتصار الثورة. طبعاً امتشق الكثيرون أدواراً عبر الإعلام، وراحوا يظهرون على كل الشاشات، بعضهم ينقل البندقية إلى الكتف الآخر بالسرعة المناسبة، ومن دون حرج، والبعض الآخر ينسب لنفسه دوراً بالثورة عبر إبداعاته، أو يقوم بوساطات بين «الشباب» وبين كل من يريد أن يسمع… الإعلام، المرئي خصوصاً، لعب دوراً واضحاً، كاشفاً، محرضاً، مشكوراً.
لكن صاحب الدور الذي لا يقل ثقلاً عن الشعب والتلفزيون، هو جمهور هذا التلفزيون، الذي تسمّر أمام شاشته طوال أسبوعي الثورة ولم يتزحزح. من المحيط إلى الخليج كان هذا التسمّر. التلفزيون ينوجد إن وجد لنفسه جمهوراً؛ التلفزيون كل قيمته أنه، بنقله لوقائع الثورة، وبإثارة انتباه وتعاطف كل هذا الجمهور، حمى الثورة من مخاطر السير من دون شهود. والشهود هم هؤلاء الذين لم يتركوا التلفزيون طوال الأسبوعين إلا عند الضرورة. إنها حقاً ثورة من الطراز الجديد. لا تنفع معها محاولات تسلقها، البالية الطراز. فمن بين المشاهدين، صار هناك من يميز الغث من النفيس في مواده. والفضل بذلك يعود إلى عدم الاحتكار. الثورة سوف تفتح لنا المزيد من التنوع الإعلامي، وربما تجد لنفسها طريقاً جديداً لإعلام آخر.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
نوافذ “المستقبل”
إلهامات الثورة المصرية
يجب على كل الشعوب العربية الثورة على الأنظمة الفاسدة يجب على العرب أن ينهضوا ويرفعوا رأوسهم
العزة والكرامة للمسلمين