الرؤية الى الوضع اللبناني من العاصمة الفرنسية تختلف عنها من بيروت، فالكاتب او المحلل السياسي يبتعد هناك عن المؤثرات اليومية والعاطفية ويقارب ما يجري بموضوعية ودقة أكثر، وعلى هذه القاعدة يقول الباحث خطار ابو دياب استاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس والمعهد الدولي للجغرافيا السياسية وأحد القريبين من دوائر القرار الفرنسية في ما يتعلق بالشرق الاوسط ولبنان تحديداً، إن الادارة الفرنسية تدرك جيداً ان قوتها العاملة في الجنوب ليست قوة ردع، وانها في حال اتخاذ قرار بالحرب او اشتعال جبهة الجنوب مع اسرائيل لا تقدر على التصدي لأي من الطرفين المتنازعين لأن دورها سياسي فحسب وقوتها مستمدة من الغطاء السياسي الدولي وليست من الامكانات العسكرية المتوافرة لها ميدانياً. وفي رأي ابو دياب ايضاً ان لا خوف من اخذ القوة الدولية رهائن في اي نزاع محتمل، لانها كما تقول الاوساط الفرنسية قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة منطق يريد العودة بالوضع اللبناني الى الثمانينيات وحقبة الرهائن الاجنبية وما خلفت من اثر سلبي جداً على لبنان.
ابو دياب الذي يزور لبنان حالياً يشدد على ان موقف فرنسا ثابت لم يتغير بدءاً بالعام 1968 في دعم سيادة لبنان واستقلاله، ويقول ان الادارة الفرنسية توصلت خلال العامين 2007 و2008 بعد نزاع “تاريخي طويل” مع دمشق نتيجة لنظرتها الى لبنان وحجم الدور السوري فيه، الى تسوية اكملت بحسب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ما كان قد بدأه الجنرال غورو عام 1920 عند اعلان قيام لبنان الكبير. وفحوى هذه التسوية استناداً الى مصادر الادارة الفرنسية انتفاء الرغبة السورية في العودة عسكرياً الى لبنان، في مقابل تأييد فرنسا للنفوذ السوري في لبنان والاعتراف به. ويضع الفرنسيون استناداً الى ابو دياب شرطاً لهذه المعادلة هو الا لا يتعارض النفوذ السوري في بيروت مع مستلزمات الاستقلال والسيادة اللبنانية. واستطراداً يعتبر ان التنسيق بين رئيس الجمهورية اللبنانية والقيادة السورية يشكل مدعاة الى الارتياح لدى الفرنسيين الذين ينظرون الى هذه العلاقة برضى ويعولون على تحقيق المزيد من التقدم في العلاقات بين الحكومتين اللبنانية والسورية في اتجهات محددة، مثل مسائل ترسيم الحدود بين البلدين وقضية المعتقلين والمفقودين في السجون السورية وغيرها من الامور العالقة بين البلدين. ويجزم الباحث اللبناني المقيم في باريس منذ سنين عدة والخبير في شؤون الادارة الفرنسية ومنهجية تفكيرها، ان ثمة اقتناعاً راسخاً لدى الادارة الفرنسية الحالية بأن السعي المتواصل الى حل ملفات الشرق الاوسط ولبنان وفلسطين هو افضل من لا شيء. وان ترسيخ الاجواء الايجابية لا بد من ان يؤدي في نهاية المطاف الى التوصل الى نهايات ايجابية. ويشير في هذا الاطار الى ان تعيين جان كلود كوسران لتحريك الملف الاسرائيلي – السوري ليس بعيداً عن هذه التوجهات.
القوة الدولية ومنطق الرهائن
اما في شأن القوة الدولية العاملة في الجنوب، فيعتبر ابو دياب ان الاشكالات التي حصلت قبل مدة بين الكتيبة الفرنسية العاملة في اطار “اليونيفيل” و”الاهالي” الذين يحظون برعاية “حزب الله” انما كانت معروفة المرامي والاهداف لدى الفرنسيين. وهو اذ يحمل قيادة الكتيبة الفرنسية بعض المسؤولية لعدم التنسيق مع قيادة الجيش اللبناني في بعض جوانب تحركها الميداني، الا انه ينسب الى مصادر فرنسية ان “حزب الله” اراد توجيه رسائل واضحة الى باريس في شأن القرار 1929 الصادر عن مجلس الامن في 8 حزيران 2010 والذي فرض عقوبات على ايران. ويخلص الى ان “الرسالة وصلت الى من يعنيه الامر، لكن التلاعب مع القوة الدولية في ظل ما تتمتع به من غطاء دولي لحركتها ليس بهذه السهولة”. ويضيف ابو دياب، ان “الحديث عن اخذ قوة “اليونيفيل” رهائن في حال حصول هزة كبيرة او تعميم الفوضى في الوضع اللبناني، انما هو منطق يفتقد الى الصواب، وإذا كانت هذه القوات لم تنتشر حسب الفصل السابع، فانها تتمتع بصلاحيات الدفاع عن نفسها استناداً الى الفصل السادس المعزز مما يجعل محاولة الاعتداء عليها مواجهة مع المجتمع الدولي برمته”، الامر الذي يعتبر ابو دياب ان “سوريا لا تحبذه وهي المعنية لاسباب عدة بحماية القوة الدولية اولاً وبتأمين استمرار علاقاتها الممتازة مع الاتحاد الاوروبي ثانياً.
مفاعيل الدوحة والمحكمة
وعن تحذير الرئيس الفرنسي ساركوزي من غرق لبنان في دوامة العنف مجدداً والموقف من المحكمة الدولية، يقول ابو دياب ان “هناك خشية لدى الدوائر الفرنسية من انتهاء مفاعيل اتفاق الدوحة داخلياً وعدم احترام ما اسفرت عنه القمة الثلاثية السعودية – السورية – اللبنانية، والعودة الى استخدام لغة التهويل لفرض اجندات معينة، والادهى خشية الفرنسيين من ربط الكثير من الصراعات الاقليمية بالساحة اللبنانية والخلط بين المحكمة الدولية وما يجري في العراق واليمن وغيرهما والعقوبات الدولية على ايران خصوصاً. وقد ابلغت فرنسا كل المعنيين بالوضع اللبناني سواء في بيروت ام في المحيطين الاقليمي والعربي ان موضوع المحكمة الدولية خرج من نطاق التدخل السياسي لأي كان، بمعنى او بآخر”. واستطراداً يجزم ابو دياب انه “ما دام مجلس الامن الدولي قد اقر نظام المحكمة ووافق عليه، فإن هذه المحكمة اصبحت تتمتع بكيان سيادي دستوري وقانوني لا يمكن ان الاحتكام اليه او التعامل معه الا من خلال مقتضيات القانون الدولي واحكامه. وتالياً إن نشر القرار الظني او عدم نشره مسألة سيادية في يد المدعي العام دانيال بلمار وحده، ولا تستطيع باريس او واشنطن او غيرها التعديل في الامر”.
وقال ان “كل ما يحكى عن حركة موفدين وشخصيات الى العواصم الغربية صحيح، لكن المعطيات التي تنشر عن نتيجة هذه الزيارات ليست دقيقة، والمحكمة بما تتمتع به من شخصية قانونية مستقلة لا سلطة لأي قوة عليها”. واضاف: “لم يقل احد متى سيصدر القرار الظني، وكل ما حكي عن هذا الموضوع تكهنات واعتقاد لدى البعض بأنه قد يصدر خلال الاشهر الثلاثة المقبلة. لكن هذا القرار لن يصدر ما لم تتوصل المحكمة الى قرائن وادلة قاطعة. ثم ان محكمة بهذا الحجم لا يمكنها التلاعب بالمعطيات، فهي تخضع لرقابة المنظمات الدولية والعالم بأسره (…)”.
وفي رأي ابو دياب ان لا مصلحة للفرنسيين ولا للعرب عامة في فتنة سنية – شيعية والظروف الاقليمية والدولية ليست مهيأة لتكرار تجربة 7 ايار 2008، لأن اتفاق الدوحة كرّس دور سوريا في لبنان، ولأن الوضع اللبناني والاقليمي يزخر بالكثير من التعقيدات التي تمنع تحويل لبنان غزة ثانية، وهذا الامر تدركه قيادة “حزب الله” جيداً”. وفي ظل هذه المعادلة يدعو ابو دياب الى “البحث في حجم الدور السوري في هذا الاقليم من الشرق الاوسط ومدى علاقاتها بايران وتركيا والى اين ستصل هذه العلاقة، اضافة الى علاقتها المستحدثة مع المملكة العربية السعودية”. وفي رأيه ايضاً ان “لا اوهام حيال قدرة سوريا على التحكم في قرارات “حزب الله” والعلاقة الايديولوجية القائمة بينه وبين ايران. اما الرهان على فك التحالف السوري – الايراني فهو رهان غير ممكن لأن سوريا تريد ثمناً باهظاً يتمثل في المفاوضات على استعادة هضبة الجولان المحتلة ودور النظام السوري في اللعبة الاقليمية والمنطقة العربية، في حين ان الادارة الاميركية لا تريد التطبيع مع دمشق قبل تلمس خطوات ايجابية في لبنان والعراق، الى مطلب اخر يتمثل بخفض علاقات سوريا بإيران و”حزب الله” وحركة “حماس”.
ويخلص ابو دياب الى “ان هناك رهاناً فرنسياً على دور سعودي – سوري – تركي لمنع اي مغامرة في لبنان، ولاقناع الجميع بأن المعادلة الحالية تبقى هي الأفضل”.