مسكينة يا فلسطين..!!

1

موقف السلطة من تقرير غولدستون خطأ وخطيئة. ومهما اجتهد البعض في البحث عن أعذار فإن الضرر كبير. وهذا ما أدركه خصومها وهم كثر، وقد وجدوا بين أيديهم ورقة رابحة، لن يتورعوا عن استخدامها بكل طريقة ممكنة للنيل من السلطة، وتقويض مكانتها، وتلطيخ اسمها بالوحل. وهي في الواقع في وضع لا تحسد عليه.

ومن بين اتهامات مختلفة ساقها هؤلاء عبارة وضعها عبد الباري عطوان عنوانا لمقالته الافتتاحية في جريدة “القدس العربي”: “إنهم يتاجرون بدماء الشهداء”. وقد تكررت هذه العبارة على لسان أكثر من معلّق، وجاءت في أكثر من مقالة وتصريح.

والمُضحك المُبكي في هذا الشأن أن السلطة في وضع لا تحسد عليه بالفعل لأنها فعلت وتفعل العكس، أي لا تتاجر بدماء الشهداء. وهي تحاول، في الواقع، التجارة بكل شيء ما عدا الدم. تجارة الدم في فلسطين والعالم العربي هي الأكثر رواجا لأن الدم متوّفر، رخيص الثمن، سهل الاستعمال، ولا رقابة على السوق، ولا قوانين تحظر المضاربة والمغامرات. ليس هذا وحسب، بل غالبا ما يتحوّل مقامرون أهدروا الكثير من الدم إلى أبطال دون التدقيق في حقيقة ما أنجزوه.

والمُضحك المُبكي، أيضا، أن تهمة التجارة بدماء الشهداء كانت ستلاحق السلطة لو فعلت العكس، أي لو أصرت على طرح التقرير المذكور للتصويت. ففي تقرير القاضي غولدستون اتهام لحماس بارتكاب جرائم ترقى إلى مرتبة جرائم الحرب. وقد اتهم ناطقون باسم حماس التقرير وصاحبه بالتحيّز والمساواة بين القاتل والضحية، ووصفوه بالمنقوص، كما أشار البعض إلى يهودية وصهيونية غولدستون..الخ فما الذي تغيّر، ولماذا يصر البعض على التناسي والنسيان؟

ومع ذلك، لم يكن من حق السلطة إرجاء التصويت على التقرير، أو سحبه، أو ما شئت من أوصاف، بل كان عليها وما يزال التمسك بالتقرير، وعدم الاستجابة للمطالب الأميركية، أو التهديدات الإسرائيلية، واختبار كافة السبل الممكنة لتحويل التقرير إلى وثيقة مرجعية، تحظى بالاحترام والمصداقية، وتمثل إدانة صريحة بالمعنى القانوني والأخلاقي والسياسي للمؤسسة السياسية والعسكرية الحاكمة في إسرائيل.

لكن الفرق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون يقود التحليل إلى أبعاد إضافية نادرا ما تحظى بالاهتمام. والمقصود، هنا، هشاشة الوضع التفاوضي للسلطة فهي في قبضة إسرائيل بالمعنى الجغرافي والاقتصادي والسياسي.

وقد كانت هذه الحقيقة جلية للعيان منذ اليوم الأوّل لإنشاء السلطة الفلسطينية. لكن المرحوم ياسر عرفات حاول خلق وقائع جديدة على الأرض، كان بعضها أقرب إلى الواقع الافتراضي منه إلى الواقع المُعاش، لخلق صورة وهيبة ورموز وطقوس وتقاليد الدولة، على أمل أن تتحوّل الوقائع الجديدة على الأرض إلى أمر واقع. وهذا لم يحدث. فكان عليه أن يخوض حربا حقيقية للخروج من المأزق، بيد أن الحظ لم يسعفه لا بالمعنى الشخصي أو العام.

وما حدث بعد رحيل ياسر عرفات يمكن تحليله بطرق مختلفة، لعل الأبرز من بينها فقدان الواقع الافتراضي للجدية والجدوى في نظر النخبة السائدة في السلطة أولا، وإدراكها لحقيقة أن نتائج الحرب لم تكن في صالح الفلسطينيين ثانيا. وقد أسهم هذان العاملان في توليد سياسة أقل شعبوية وأكثر التصاقا بالواقع المُعاش، على أمل الخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر، وإعادة تنشيط المسار التفاوضي. وكان من الممكن لسياسة كهذه أن تنجح بالفعل لو أرد الإسرائيليون تحقيق تقدّم في اتجاه السلام، وتنازلوا عن وهم إنشاء نظام للإبارتهايد كحل للمسألة الفلسطينية.

لذا، أسهم العاملان المذكوران، إضافة إلى الممانعة الإسرائيلية، في خلق أجواء ازدهرت فيها مختلف أنواع المعارضة الطبيعية والمفهومة من جانب فلسطينيين فقدوا الأمل في العثور على ضوء في آخر النفق أولا. ولم يكن من الصعب في ظل أجواء كهذه نجاح أفراد وجماعات في الاستفادة من الشعور العام بالإحباط ثانيا. ولم يكن من الصعب، أيضا، أن تكتشف قوى إقليمية مختلفة أن إمكانية اختراق الساحة الفلسطينية عن طريق وكلاء محليين أصبحت متوفرة ثالثا. هذه هي حقيقة الوضع القائم على الأرض في الوقت الحاضر. ولهذا السبب تبدو السلطة في وضع لا تحسد عليه، إذ تجد نفسها أمام أكثر من خيار أحلاهما مر، كما يقال.

وإذا شئنا توسيع المدى، قليلا، فلنقل إن الوضع الحالي للسلطة، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالاستنكاف عن الشعبوية والمضاربة بالدم، ينطوي على دلالات تراجيدية كثيرة. فقد تزامنت واقعة تأجيل التصويت على تقرير القاضي غولدستون مع صفقة بين إسرائيل وحماس، أطلقت الأولى بموجبها سراح عشرين أسيرة مقابل شريط مصوّر يؤكد بقاء شاليط على قيد الحياة.
وعلى الرغم من اعتبار واقعة جنيف خطأ وخطيئة، فإن أحدا من المعلقين لم يتوقف أمام حقيقة أن ما دفعه الفلسطينيون من القتلى والجرحى منذ اختطاف شاليط، وما تكبدوه من حصار وعناء وقصف ورعب، يفوق الثمن الحقيقي لذلك الجندي الإسرائيلي بآلاف مؤلفة من المرّات.

لم ولن يتوقف أحد أمام تفاصيل وأسئلة كهذه، ولن يتوقف أحد بعد عام من الآن أمام ما ساق من اتهامات وما أطلق من شتائم، ولن يشعر أحد بتأنيب الضمير، ففي الشعبوية البلاغة أقوى من الذاكرة. وعلى شجرة الشعبوية، وفي سوق المضاربة بالدم، تشدو بلابل وتنوح غربان كثيرة. مسكينة يا فلسطين.

Khaderhas1@hotmail.com

• كاتب فلسطيني- برلين

عن جريدة “الأيام”

1 تعليق
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
riskability
riskability
14 سنوات

مسكينة يا فلسطين..!! ساند تقرير “غولد ستون” 33 عضو من اصل 47 , ولكن المعارضين هم (اليابان والاتحاد الاوروبي وامريكا) .. المندوب الامريكي (Michael Posner) اعلن بوضوح ان امريكا ستستخدم حق النقض (الفيتو) .. وبذلك بقي للمندوب الفلسطيني خيار واحد ووحيد وهو تأجيل التصويت حتى آذار المقبل (لعل وعسى) الخيار الثاني (عرض التقرير للتصويت) سيؤدي حتما الى شطبه نهائيا بالفيتو .. الشارع العربي سيهتف بالموت لأمريكا ويحرق اعلامها ويحلم تلك الليلة انه يقف على قمة العالم …. (ولا عزاء للضحايا) الربط الخيالي للنقاط لتتوافق مع موقف مسبق (شيطنة الآحر) رياضة عربية محببة , والفلسطينيين ليسوا استثناء .. وعلى الطرف الآخر… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading