“عصارة” الجمهورية و”عصا” الديموقراطية

0

لماذا نؤمن كلبنانيين بوطننا مع أن الظروف الصعبة والتشنجات السياسية تلاحقنا منذ ولادتنا وقبلها ولادة أهلنا، وأجدادنا من قبلهم؟. ولماذا نحتفظ بهذا العنفوان الذي يسيطر علينا كلبنانيين شباب وصبايا وكبار في العمر كلما سمعنا نشيدنا الوطني مع اننا في كثير من الأحيان كنا نقول اننا سنترك هذا الوطن ونرحل عنه أو كنا حتى نيأس من نشيدنا وصوت الفرقة الموسيقية فيه؟. أسئلة كثيرة وغيرها ظروف عديدة مررنا بها في تاريخنا الطويل كمواطنين في دولة على حافة أن تصير دولة أو كبلد على حافة أن يشتعل حرباً، وكل مرة كنا نتساءل، هل يستحق من الانسانية وطناً بهذا الحجم الصغير كل هذا النضال وكل الشهداء الذين سقطوا من أجله ومن أجل ترابه وبحره وسمائه الزرقاء والمغطاة بالغيوم تحمل مطراً؟.

هذا الـ”لبناننا” ينفرد بأنه وطننا الذي نحب مع ان في الدنيا أوطاناً أجمل، والذي فيه رسمنا أحلامنا مع ان الكثيرين منا حققوا أحلامهم خارجه، وكذلك رأينا فيه رفاقنا والأصدقاء مع انهم هاجروا إلى بلاد أرحب، ولكنه بلدنا الذي صرخنا صغاراً في ملعب مدرسته نريد إضراباً دفاعاً عن فلسطين أو مناصرة للأساتذة في تحرك نقابي، أو حتى غناء لعبد الحليم حافظ عن الحبيبة. هو بلدنا الذي فيه عرفنا معنى أن يكون لدينا دولة بمتناقضاتها، وحروبها الأهلية وحروب الغير على أرضها، وكذلك سلمها الجميل والهادئ والمتنافر مع محيط يحلم بانهاء هذا الوطن الجميل.

في زمن ستينات أو سبعينات القرن الماضي قال واحد من سياسيي هذا البلد “وطني دائماً على حق”، وهذا أمر صحيح، نخطئ نحن، ونتبدل نختلف ونتوحد، نتظاهر في مسيرات كبيرة وصغيرة، ونرسم جدراناً جميلة ونستمع موسيقى مختلفة، ونسجل أعلى رقم مازات على طاولات مطاعمنا، وندوّخ العالم القريب ان الثلج قد يبقى فوق جبالنا من عام لعام، ولكن في النهاية كما البداية، نجد ان وطننا لنا من بحره الذي نسبح فيه جميعاً مع ان أماكن كثيرة فيه نرمي فيها نفاياتنا، إلى حدوده في السلسلة الشرقية في البقاع حيث تدور الكسارات ناهبة جبالنا كما في السلسلة الغربية، إلى مزارع شبعا التي يحتلها الاسرائيلي الذي طردناه خلال سنوات طويلة من نضال صعب وقاس، إلى قرى الشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة، هو وطن الحق وهو الحقيقة التي ناضلنا لسنوات طويلة وسنظل نناضل لنحتفظ به وطننا خارجاً من جغرافيته الصغيرة إلى رحاب الكرة الأرضية الكبيرة.

هو لبناننا جميعاً، ولا ننكر اننا اختلفنا حتى على أمر بديهي كتشكيل حكومة، ونعرف ان متناقضاتنا يكره البعض القريب وجودها لأنها تظهر اننا ما زلنا نبحث عن ديموقراطية حقيقية تحمينا من القتل والتشريد، وتمنحنا في النهاية حرية قد يصعب على غيرنا من دول المنطقة الحصول عليها.

ديموقراطيتنا الصعبة ملكنا، وكذلك وطننا، الذي تعبنا لتحريره من العدو الإسرائيلي، كما تعبنا لبنائه، لنفرح فيه ونسهر في شوارعه وأماكنه الطبيعية، نختلف كثيراً على توصيفه، ولكنه في النهاية وطن النجوم حقاً، فما من بلد في العالم خسر شهداء كما خسر لبنان، ولو نسبياً، وكذلك لم يخسر بلد في العالم من نخبته التي حلمت فصنعت ثورة استقلال جمعت في استشهاد رجل في 14 شباط 2005 كل الطوائف والأديان والأفكار في ساحة واحدة لأجل وطنهم.

ليس صعباً قيام دولة في لبنان، نعم، وليس صعباً تحمل الظلم من ذوي القربى، أي أخوتنا اللبنانيين في دولتنا، ولكن صعب جداً تحمل عودة الاحتلالات والوصايات، وكذلك عودة من يقرر عنا بعدما قرّر لسنوات طويلة انتهت في العام 2005 إلى الأخذ بيدنا لارشادنا إلى طريق التوافق.

يسمون ما نعيشه هدنة، ونحن نسمي ما نعيشه تجربة مرّة وصعبة على طريق بناء الدولة، تجربة ليست بالسهلة ولكنها البداية، نحتاج إلى المستثمرين العرب؟ نعم نحتاجهم، ونحتاج كذلك إلى اللبنانيين الذين خرجوا طوال سنوات طويلة واستثمروا في الخارج، نحتاج إلى الشباب الذي يرحل باحثاً عن فرص عمل، ولكننا أيضاً نحتاج تماسك داخلي حول رئيس الحكومة المكلف، ليتم عمله بتأليف الحكومة التي تسمح لنا بإعادة نقاش بناء الدولة إلى موقعه الأصلي في مجلس الوزراء وفي المجلس النيابي.

هنا لبناننا الذي دفعنا ثمنه غالياً، ونجحنا في انتخاباته، بديمقراطية لو تعلمها غيرنا لاستطاع أن يصير رقماً أول في العالم، ديموقراطيتنا ليست وليدة ساعة واحدة بل هي عصارة مشاكلنا وصراعاتنا، ولكنها في النهاية سبيلنا لانتاج دولتنا الحديثة.

oharkous@gmail.com

* كاتب لبناني

جريدة “المستقبل”

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading