في عام 2013 أطلقت الصين رسميا مبادرة “حزام واحد، طريق واحد”، والتي تغير إسمها في عام 2015 إلى “مبادرة الحزام والطريق”. وتمّ الترويج لها على أنها “طريق حرير جديد” مستوحى من الترابط المادي والاقتصادي والثقافي لطريق الحرير القديم.
كان الهدف المعلن من المبادرة هو مساعدة الدول الأقل دخلا ونموا على استكمال مشاريع البنية التحتية وتحسين التجارة والتواصل بين الشعوب، مع اهتمام ضئيل بمشاريع القطاع الاجتماعي كالصحة والتعليم، بينما كان الهدف غير المعلن هو التمدد وخلق نفوذ للصين في دول العالم الفقيرة عبر تصدير الطاقة الانتاجية الفائضة للعديد من الشركات الصينية بعد الأزمة المالية العالمية سنة 2008، وما تلاها من حزم تحفيزية حكومية لتلك الشركات.
وبمرور الوقت تبين للدول المنخرطة في المبادرة الصينية صدق ما كانت تحذر منه الدوائر الغربية من أن الصينيين بمبادرتهم يسعون إلى تكبيلها بقيود وفرض نفوذهم عليها واستخدام أصولهم فيها كأدوات ضغط. ومنذ عام 2017 ظهر مصطلح “دبلوماسية فخ الديون” لوصف صفقة حصلت بموجبها بكين على عقد إيجار لمدة 99 عاما لميناء هامبانتوتا السريلانكي بعد أن فشلت الحكومة السريلانكية في سداد ديونها المستحقة للحكومة والشركات الصينية والناجمة عن انخراطها في مبادرة الحزام والطريق.
وسرعان ما تبين أيضا أن الشركات المكلفة بتنفيذ مشاريع مبادرة الحزام والطريق في الدول المنخرطة، جلها الأعظم من الشركات المملوكة للدولة التي تتماشى أهدافها مع أهداف الدولة الصينية وتأتمر بأوامرها، والقليل منها شركات خاصة من تلك التي تحاول جاهدة أن تجاري نظيراتها في القطاع العام كي تكسب ثقة الدولة، وبالتالي فهي واقعة تحت ضغوط قد يفسد اتقانها لعملها.
والحقيقة أن المصاعب التي واجهتها وتواجهها المبادرة الصينية لا تعود إلى “فخ الديون” أو إلى “الإقراض الجائر” فحسب، وإنما أيضا إلى عوامل أخرى مثل ضعف إدارة المخاطر، وغياب الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للمشاريع، وسوء التماسك والتواصل من جانب الشركات والمصارف الصينية المملوكة للدولة والشركات الخاصة والحكومات المحلية المعنية.
وقد بدا العامل الأخير جليا في أواخر عام 2018 حينما توقفت الجهات الرئيسية المعنية بتنفيذ مبادرة الحزام والطريق (وهي مجلس الدولة ووزارة التجارة و اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح) عن اشتراط موافقتها على طلبات الشركات الصينية للإنخراط في المشاريع الخارجية، وهذا سهل بدوره انخراطها في أنشطة إنشائية وأعمال استثمارية خارج الصين، وقلل من مستويات الرقابة على أنشطتها ودرجة الجودة والاتقان في أعمالها.
غير أن الفترة 2015 ــ 2022 شهدت انخفاضا في عدد وقيمة المشاريع الأجنبية الجديدة المبرمة في دول “مبادرة الحزام والطريق”. حيث أشارت الارقام والبيانات المتوفرة أن الشركات الصينية غيرت من تفضيلاتها لجهة الانخراط في مبادرة الحزام والطريق لأسباب من بينها العزوف عن المخاطرة، أو عدم القدرة على تنفيذ مشاريع البنية التحية الضخمة، او لأن تلك المشاريع غير قابلة للتمويل، او لعدم عثورها على شركاء راغبين من الدول المضيفة، أو بسبب أمور تتعلق بالفساد والديون. ناهيك عن عامل آخر هو أن انخراط عدد كبير من الشركات الصينية في مشاريع البنية التحتية الخارجية للمبادرة تم دون تفكير او تخطيط لجهة كيفية ربط أجزاء البنية التحتية المختلفة معا من أجل أن تعمل بفعالية، وقد أدى هذا التشرذم إلى إغراق العديد من الشركات الصينية وشركاء المبادرة في ديون بمليارات الدولارات، وبالتالي انتفاء حرصها وتراجع حماسها لتنفيذ ما هو مطلوب منها بدقة.
ويبدو أن المبادرة الصينية، ومعها سمعة الصين الانشائية والهندسية، تقف اليوم على المحك وسط تشكيك متفاقم، في اعقاب الهزة الارضية التي تعرضت لها تايلاند وميانمار مؤخرا بقوة 7.7 على مقياس ريختر. حيث كشف الزلزال عن خرافة المعجزات الصينية في البناء والتشييد المحكم، بعد أن انهارت ناطحة سحاب من 30 طابقا كان مهندسون صينيون يبنونه في بانكوك، في لمح البصر، علما بأنه المبنى الوحيد الذي انهار في العاصمة. وطبقا للصحافة التايلاندية، فإن الكارثة، التي سحقت حوالي 87 عاملا و 72 مفقودا، كشفت عن استخدام الصينيين لقضبان تسليح فولاذية دون المستوى المطلوب، حيث أفادت التقارير أن معهد الحديد والصلب في بانكوك وجد أن التركيب الكيميائي والكتلة وقوة تحمل قضبان التسليح الصينية المنشأ قد فشل في اختباراتها.
ولعل ما أثار المحققين التايلانديين أكثر هو قيام أربعة صينيين، بعد يومين من الزلزال، بجمع أكبر قدر ممكن من الوثائق والخرائط الهندسية المتعلقة بالمبنى المنهار، والهرب من مكاتبهم، قبل أن يلقى القبض عليهم وتتدخل السفارة الصينية للإفراج عنهم.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي