الاشاعة عن حسني مبارك: فصل في دراما السلطة المديدة

0

اشاعة رحيل الرئيس المصري حسني مبارك الاخيرة عاشت اكثر من غيرها من الشائعات. تشبّثت بالمصريين أياما بلياليها. اثارت لديهم الهلع من المجهول الذي ينتظرونه… فالرئيس لم يعين نائبا له، كما درج سلفاه، عبد الناصر والسادات. وغيابه الآن يفتح الباب على كل الاحتمالات.

لكنها شائعة. يغذّيها الاعلام والفضائيات. وهناك من القنوات من احترف اللعب بـ»أخبار» كهذه، وصولاً الى إعلان الوفاة في نشرة ثم سحب «الخبر» من النشرات التالية.

اشاعة عنيدة. إقتضتْ في أولى مراحلها بأن يزور الرئيس مبارك بنفسه «القرية الذكية» تكذيبا لها، مصحوبا بما يغطي هذه الزيارة إعلاميا. لكن الساهرين على الاشاعة ألحقوها بأخرى: انه الدوبلير، اي الشبيه، وليس مبارك نفسه. فكانت زيارة اخرى لمبارك الى «برج العرب» في الاسكندرية… ثم مقابلة لرئيس تحرير «الاهرام» معه…

في هذه اللحظة، الشائعة في طريقها الى التبخّر. لكن الأيام التي خلفتها وراءها مفْعمة بالمناخ الكافكاوي الضبابي والعبثي. مناخ الاحلام المرتبكة. حيث لا تفهم شيئا لا عن نفسك ولا عن غيرك…

بالتأكيد عمّ، في أوساط معينة، فرحٌ ما بإمكانية ان تكون الشائعة حقيقة. فرح الضجر والتعب. فرح نهاية طال انتظارها، طالما ان رحيل الرئيس هو الحل الوحيد لتنحّيه… لكنه فرح يمتزج بهلع مما هو آت. هل يحمل هذا الآتي جمال مبارك، نجل الرئيس الى الرئاسة؟ اي «التوريث»؟ ام العسكر؟ أي حكم العسكر؟ ام «الاخوان المسلمين»؟ اي الدولة والشريعة والمرجعية الاسلامية؟ كلها احتمالات هي، فوق انها سلبية، تحتاج لتتحقّق الى جلْجلة جديدة. الى مخاض مجهول الصورة، مخاض يأخذ طابعا امنياً؟ عسكرياً؟ انتفاضياً؟ إجرامياً؟ اقتصاديا؟ لا احد يعلم شيئا دقيقا. كلٌ يخمّن ويطلب الستر من المجهول. هذا بالطبع مع إهمال او نسيان «المواطن» محور الاناشيد اليومية، وحق هذا «المواطن» في سؤال من يدير مصيره ومساءلته.

هذه عموما حال الشعب. طلبٌ للخلاص. وخوف من نفس هذا الخلاص…
أما المجتمع المسمّى «سياسياً»، فكانت آلته الاعلامية تعمل باتجاهين: الذين يرمون مبارك بالف حجر كل يوم على صفحاتهم، مالوا الى تصديق الشائعة. لم يصرحوا بذلك تماماً، لكنهم استندوا الى «مصادر» العدو للمصادقة على الشائعة. فالاثارة عندهم «فعل ديموقراطي». ثم ان تصديق الشائعة يلبّي حلم القراء، أي انه «يبيع».

فتصديقا للشائعة، كان نصيب صحيفة «معاريف» الاسرائيلية من الاستشهاد هو الأعلى، هذه المرة. فأوردوا ما قالته من ان «الرئيس المصري لم يظهر امام الجمهور منذ اسبوعين»، وانه «غاب عن شاشة التلفزيون وعن المناسبات العامة» (بات من تقاليد الاعلام «المعارض» الاستناد الى الاعلام الاسرائيلي في حربه على خصومه في الداخل!).

المهم ان «المعارضين» هؤلاء لم يجدوا حرجاً من الاحتفاء بالشائعة والتهويل من حقيقة حصولها في آن… والتي يقولون عنها، عرَضاً، مهوّلين ايضا، ان الهدف منها وراثة جمال مبارك سلطة أبيه.

الموالون للسلطة أوردوا حججاً و»وقائع» تثبيتاً لبطلان الشائعة (الرئيس في «اجازة راحة»، «الرئيس يتأمل»، «الرئيس لا يريد ازعاج المواطنين بالمواكب الخانقة»…). ثم تجد من بينهم من يقول ان الشائعة هي دليل «الحراك السياسي الجديد في مصر»؛ و»الحِراك» هنا هو التعبير الخجول عما يراه إعلام السلطة حرية اعلامية واصلاحاً… في «ابهى عصور الديموقراطية». والشائعة نتاج «مؤامرة»، «إخوانية» تارة، ومالية تارة اخرى: «قناصو الفرص في البورصة مع مخططي الفوضى في الداخل والخارج».

لكن بين «هذين القطبين»، كان هناك من يقول بأن الوضع أبسط. بأن الشائعة اطلقها «الحرس القديم» من «الحزب الوطني» الحاكم، بقيادة زكريا عزمي وفاروق الشاذلي وصفوت الشريف ووجهها الى «الحرس الجديد» بقيادة جمال مبارك ومؤازرة علي الدين هلال. والشائعة ما هي الا جولة من جولات إختبار القوة بين الجناحين. فبعدما شعر مؤخرا «الحرس القديم» بأن «الجديد» يتقدم بخطى دؤوبة نحو قمة الحزب الحاكم ضربوا ضربة شائعة الرحيل، ليمتحنوه امام القدر الذي ينتظره، او ليخفّفوا من وثبته نحو القمة، او ليشركوه في سيناريو ما بعد ساعة القدر.

انها لعبة مع الموت، لا يجيدها غير المتمرسين في تقرير مصائر الملايين وحياتهم. والأكثر شكسبيرية من ذلك، ان هذه الرواية للشائعة تدعمها عادة الرواية العائلية، وقاعدتها الاساس: ان الرئيس يقف مع «الحرس القديم» للحزب، لأنه لا يحب التغيير. يفضل عليه الاستقرار. فيما حرمه، السيدة سوزان مبارك، وابنها جمال طبعاً، هما مع «الحرس الجديد»…

الآن تتبخّر الشائعة، وتستكين النفوس مجددا الى قدر يومياتها. لكن التوجس لا ينام. والمصريون كأنهم على اهبة الاستعداد لحدث مؤلم – سعيد. والسيدة سوزان مبارك تطالب بالبحث عن مطلقي الشائعة ومحاسبتهم. فيما المجلس الاعلى للصحافة برئاسة صفوت الشريف يجتمع بهيئته العليا لدراسة «الوضع القانوني» للمارسات الصحافية القومية والمستقلة حيال الشائعة. اي ان المشيعين في طريقهم الى الاقتصاص منهم.

لكن اذا تم القبض على مُطلقي الشائعة، المُطلقين الحقيقيين اقصد، لا اكباش المحرقة، فهل نقضي بذلك على إنعدام الشفافية وعلى التسلّط السياسي، حاضني الشائعة بامتياز؟

أرض العروبة، أرض التخمين والالتباس والانطباع… أرض خصبة لكل الشائعات.

dalal_el_bizri@hotmail.co
الحياة

Comments are closed.

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading