إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
هل تتحول نقاشات الحكومة اللبنانية بهدف إصدار “قانون إعادة هيكلة المصارف”، كما طلب “صندوق النقد الدولي”، من نقاش “تقني” جاف إلى أداة لإعادة رسم ميزان القوى بين مؤسسات الدولة اللبنانية؟
وبعد أزمة “الحاكم”، هل تسعى أطراف حكومية إلى تقليص دور “مصرف لبنان” لصالح “هيئة الرقابة على المصارف”، وهي مؤسسة ذات طابع رقابي-تحقيقي، لا تملك صلاحيات تقريرية أو قضائية؟
إصلاح أم إعادة توزيع للسلطة؟
كان أبرز شروط صندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان للخروج من أزمته المستمرة منذ العام 2019:
• رفع السرية المصرفية، وقد تم تشريع ذلك بموجب القانون رقم 306/2022، بأثر رجعي، مما أتاح للهيئات الرقابية تتبع أي مخالفات مالية خلال العقد الماضي؛
• إصدار قانون شامل لإعادة هيكلة المصارف ومعالجة إخفاقاتها، يرمي إلى تنظيم عملية التصفية أو الدمج، وتوزيع الخسائر النظامية بشكل عادل بين الدولة، ومصرف لبنان، والمصارف التجارية.
يُعدّ قانون إعادة هيكلة المصارف، الذي يُناقَش حاليًا في مجلس الوزراء، ضرورة قانونية لا مفر منها، وهو سيمكّن مصرف لبنان من تحديد أي المصارف لا يزال صالحًا وقادرًا على الاستمرار، وأيها يجب دمجه، وأيها يتوجب تصفيته. هذه المبادئ لا تثير خلافًا قانونيًا أو تقنيًا، بل هي مطبّقة في معظم الأنظمة القانونية من أوروبا إلى دول الخليج، تحت إشراف المصارف المركزية، وبتصميم من خبراء قانونيين في الإفلاس والإدارة والقانون المالي.
لكن، يبدو أن النقاشات انحرفت إلى مناحٍ سياسية، وبات ما يفترض أن يكون تشريعًا تقنيًا جافًا أداةً لإعادة رسم التوازن الدستوري للسلطة—تمامًا كما حصل عقب اتفاق الطائف عام 1989!
وتفيد معلومات أن بعض الأطراف الحكومية تسعى بوضوح إلى تقليص دور مصرف لبنان لصالح هيئة الرقابة على المصارف، وهي مؤسسة ذات طابع رقابي-تحقيقي، لا تملك صلاحيات تقريرية أو قضائية.
وتزداد الأمور تعقيدًا بفعل البُعد الطائفي: إذ يشغل حاكم مصرف لبنان موقعًا يُحتفظ به تقليديًا لماروني، بينما يرأس هيئة الرقابة على المصارف شخصية سنّية. وعلى الرغم من أن صندوق النقد لا يُعير اعتبارًا لهذه التفاصيل، فإن النظرة الطائفية سيّست نقاشًا كان يفترض أن يبقى مؤسساتيًا محضًا.
خلط خطير بين السلطات
ينص مشروع القانون على منح هيئة الرقابة على المصارف صلاحيات تقرير مصير المصارف—من حيث البقاء، أو الدمج، أو التصفية—وهي صلاحيات لطالما كانت محفوظة لمصرف لبنان، الذي يتصرف بصلاحيات شبه قضائية، ضمن ضوابط رقابية صارمة.
هذا التعديل يثير مخاوف قانونية عميقة، سواء من زاوية القانون الإداري أو الدستور. فإسناد هذه الصلاحيات إلى هيئة تحقيقية ينتهك مبدأ فصل السلطات. إذ أن دور الهيئة يشبه دور الادعاء، لا القضاء. أما تمكينها من التحقيق، والملاحقة، والفصل، فهو دمج غير مشروع لأدوار القاضي والمدّعي والمحلف في كيان واحد، وهو أمر يتناقض تمامًا مع أبسط مبادئ حكم القانون، ولا يجد له نظيرًا في أي من الأنظمة القضائية العربية أو الأوروبية.
ويزداد الخطر مع غياب أي حق للطعن بقرارات المحكمة العليا الخاصة بإعادة الهيكلة—وهي محكمة يُنشئها القانون خارج مظلة مصرف لبنان، وتفتقر لأي رقابة قضائية فعلية، وقد يتم تشكيلها بطريقة مشوبة بالتجاذب السياسي.
أزمة تُقرأ بوصفها حربًا أهلية
هل يتعامل بعض الأطراف مع الانهيار المالي في لبنان على أنه حرب أهلية مالية مقنّعة، يسعون من خلالها إلى إعادة هيكلة ليس فقط النظام المصرفي، بل التوازن الدستوري للسلطة—تمامًا كما حصل عقب اتفاق الطائف عام 1989؟
في هذا السياق، لم يعد مشروع القانون المقترح مجرد مبادرة تقنية، بل محاولة مموّهة لإعادة رسم الخريطة المؤسساتية. فالخطاب “الإصلاحي” المزعوم، (ونغمة مواجهة ”أعداء الإصلاح” و“حلفاء المصارف”) يُستخدم لتبرير إعادة توزيع للسلطات من مصرف لبنان إلى جهات أخرى، تحت ذريعة تلبية شروط صندوق النقد.
سابقة لا بد من استذكارها
لقد مرّ لبنان بمثل هذا السيناريو من قبل. فإعادة توزيع السلطات التنفيذية عقب اتفاق الطائف أنتجت توازنات معقدة وشللاً مؤسساتيًا دائمًا. اليوم، يخشى كثيرون أن يتكرّر المشهد في المجال الاقتصادي، حيث تتشابك الصلاحيات بين الرئاسة، والحكومة، والجهات الرقابية، في تركيبة بلا وضوح أو فاعلية.
بكلام آخر، إذا ما أُقرّ قانون إعادة الهيكلة بصيغته الحالية، فقد لا يُعالج أيًا من المخاطر المالية الأساسية، بل قد يزرع بذور أزمة مؤسساتية جديدة.
وباسم التعافي الاقتصادي، سيتم خلق أزمة دستورية جديدة.