عندما قبل الرئيس حافظ الأسد بالانضمام إلى “مؤتمر مدريد للسلام”، بعد حرب الخليج الثانية، قصد أن مجرد التفاوض مع إسرائيل، وجها لوجه، على شروط السلام، يشكّل بحد ذاته ضمانة لنظامه، ومصدر اطمئنان لاستمرار حكمه؛ هو الواقع في عداد الرهط الذي خسر “الحرب الباردة”، كما كان المسؤولون الأميركيون يذكرونه من وقت إلى آخر.
دهاؤه تمثل في القدرة على تحويل هذا الموقع المتهالك إلى مصدر للكثير من المكاسب في الإقليم؛ ليس أقلها تصدر المراتب العربية إلى جانب العاهل السعودي ورئيس مصر، وأعظمها تأكيد وصايته على لبنان وتثبيت أركانها والاستفادة مما أتاحته اقتصاديا وسياسيا.
لهذه الأسباب الوجيهة رفع الدكتاتور البعثي مسألة التفاوض مع عدوّه القومي إلى واحد من الأقانيم المكونة لعقيدة عبادة الشخصية، خلال مغارب حكمه المديد، بعد “التحرير في حرب تشرين المجيدة” و”التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل” خلال مراحل سابقة، رفع شعار “فن التفاوض”.
وهكذا، على مدى عقد طويل من الزمن السياسي في الشرق الأوسط، جلس رُسل الأسد إلى أكثر من طاولة تفاوض في العاصمة الأميركية وخارجها، قبالة أكثر من حكومة إسرائيلية؛ مفاوضين في الظاهر على مصير الجولان ومعاهدة الصلح بين الدولتين؛ فيما سيّدهم يضمر في الباطن استمرار التفاوض، واستهلاك المفاوضين، الأميركيين والإسرائيليين والسوريين على حد سواء!
إنه “فن التفاوض” الذي دأب الإعلام السوري في تلك الأيام، ومعه رديفه اللبناني المؤيد للوصاية، على كيل المدائح ورفع آيات التسبيح لذلك الإعجاز الأسدي؛ درة “جبهة الصمود والتصدي”، يفاوض على الجولان الساكن، ويمنع التفاوض على جنوب لبنان الملتهب، ويخوّن الفلسطينيين وسائر العرب، بربقة الهرولة إلى العدو والتفريط بحقوق الأمة.
“محور الممانعة” آل إليه هذا الإرث الخالد بكليته، بعدما انتقلت أحزابه وحركاته وشخصياته من خدمة آل الأسد إلى الانتظام في فيالق “ولاية الفقيه”، تحت إمرة قاسم سليماني، الذي التمعت في مرايا شخصه الرهيب ظلال حسن محمد الصباح، “شيخ الجبل” حليف أواخر الصليبيين المضرج بدماء المسلمين، وأبو مسلم الخرساني، داعية “أبوالعباس السفاح”، وقتيل خليفته “المنصور”.
تلاميذ حافظ الأسد اللبنانيون، وجميعهم دون استثناء تتلمذوا عليه في مطالع حياتهم السياسية، عادوا إليه بعدما أدبرت بهم الأيام وسدّت أمامهم السبل وتداعت بهم مشاريع الغلبة؛ إلى حد أن أذن لهم “المرشد” في طهران، الطلب من الولايات المتحدة أن تقيم لهم طاولة، وتنظّم لهم مفاوضات لترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل؛ علّ هكذا طاولة تقيهم أذاها المتصاعد، منذ التحليق العلني لطائرة إف – 35 فوق بيروت، وصولا إلى ضربة عين قانا ومرورا بهجوم المسيرات على معدات تسلح معينة في قلب الضاحية الجنوبية، ثم فاجعة المرفأ تتويجا لهذه العدوانية المتصاعدة.
المشترك بين الاستهدافات الأربعة، ومثلها ما حصل ويحصل في سوريا وداخل إيران، هو الأسلحة النوعية التي زعزعت الميزان العسكري المتآكل منذ زمن بينهم وبين راعيهم وبين الدولة العبرية؛ هذا ما أنتج سياسيا “الاتفاق الإطار” الذي تمخض عن مفاوضات الناقورة.
هي مفاوضات طلبها لبنان رسميا من أميركا، موضوعها ترسيم الحدود البحرية حصرا، حيث أن إسرائيل رسمت ورسّخت الحدود البرية من جانب واحد إلى حد بعيد؛ ولأن مزارع شبعا مسألة محكومة بنصوص القانون الدولي ضمن إطار مفاوضات ثلاثية، ثالثهما فيها سوريا؛ وهي قد لا تكون بعيدة عما تظهره الإشارات المتنامية والاهتمام الروسي المستجد.
مفاوضات ترسيم الحدود البحرية تستضيفها الأمم المتحدة على الأرض اللبنانية، حيث أنّ لا مراكز للمنظمة الدولية على الجانب المقابل؛ فالقوات الدولية مكلفة بموجب القرار 1701 بمراقبة ما يجري داخل بلادنا حصرا، بموجب ما آلت إليه أيام “المقاومة” ثم “الممانعة” المتعاقبة من 1993 إلى 2006؛ مما يراه الممانعون فوزا وضمانا.
كل ذلك حسن، ولعله يفضي إلى خير هذه البلاد وأهلها الذين يسامون أنواع العذاب؛ سوى أن بوادر ما نحن فيه، جولة أولى ثم ثانية ثم ثالثة يشي بأن القائمين على الأمر الخطير، وكأنهم استلوا من جعبتهم كراس “فن التفاوض الأسدي” وباشروا تطبيق مقدمته الأثيرة: الوفد التفاوضي والمناكفة على تركيبته مدنيين وعسكر، وفحوصات وطنية ثم ولاء أعضائه؛ ثم التمترس عند مطالب الحد الأقصى تدليلا على صفاء الوطنية واستيعاذا من التفريط.
هي مقدمات الاستيطان المديد، عقد من الزمن وربما أكثر، إزاء طاولة المفاوضات: برج الأمان، ونبع المكاسب، وباب الحكم والسلطان، حسب العقيدة الأثيرة.
سوى أن واقع حال مريدي المدرسة الأسدية ومجتهديها اللبنانيين، أن ميزان القوة بينهم وبين من هم قبالتهم، أعداء ومسهلون ومستضيفون، لا يتيح لهم من عمر الزمن سوى عقد من الأسابيع وربما الشهور في أحسن أحوالهم.
ثم إن أوضاع بلادهم هي أقرب إلى واقع حال بلاد الأسد في عهد وريثه؛ بما لا يتيح لهم نصب طاولة التفاوض على الحدود، والجلوس وراءها مفاوضين على الترسيم ظاهرا، ومتطلعين إلى ابتلاع كل ما هو قائم شمال تلك الحدود، فيما يبدو أنهم يضمرونه ويزمعون عليه.
لا يلام المريدون الأسديون، فالنفس أمّارة بالطمع، في سياسات لطالما كانت مجزية؛ ولكنهم افتقدوا دهاء أستاذهم باستسهالهم تقويض مبادرة رئيس فرنسا، وجوهرها معالجة الانهيار الذي أنتجه حكمهم المديد؛ بإصلاحات تعيد تكوين نواة اقتصاد، بما يتيح للبلاد القيام بأود شعبها، كمدخل إلى القيام بموجبات الدولة، ومن بينها التفاوض مع القوة العظمى الإقليمية.
صدوا فرنسا التماسا لرضا أميركا؛ ثم بالكاد انقضت جولة التفاوض الأولى، حتى تبلغوا أن أميركا إياها تطلب حزمة الإصلاحات التي اقترحتها فرنسا، شرطا لقيام نصاب دولة بالحد الأدنى، يصار إلى اعتماده دوليا وفي الإقليم، تفاوض مع إسرائيل ثم مع سوريا، على الحدود مع جارين تتسم العلاقة معهما بنفس مستوى التعقيد والعداوة.
لم تصل بهم الفطنة نقطة إدراك أن المجتمع الدولي موحد في مقاربته لأوضاع بلدهم؛ الأميركان والأوروبيون وحتى الروس؛ كل هذه الدول تسعى بلبنان ليطبّع أوضاعه، كي يصبح هو أولا دولة طبيعية؛ والمقترح دوليا مشوار يبدأ من الداخل باتجاه الحدود، كل الحدود في الجنوب والشرق والشمال، وهذا المنطق الأسلم؛ أو من هذه الحدود جميعها باتجاه الداخل، أمنا واقتصادا وعقدا اجتماعيا وسياسيا.
والأدهى أن المجتمع الدولي على عجلة من أمره، اتقاء لمصالحه؛ فيما يعاين ممثلوه يوميا، تحول معظم اللبنانيين إلى شعب جائع، شارد، وبالتالي طالب لجوء على أبواب سفاراته، أو بالقوارب عبر البحر هربا من حكم الطغمة التي تتغطرس في حكمه.
لذا فبرّ الأمان المتاح أمام مجتهدي مدرسة التفاوض الأسدية ضيق وقصير؛ هم الذين اختاروا المشوار الثاني متوهمين أنه يتيح لهم ما أتاحه لأستاذهم في الزمن الغابر؛ فيما المتاح اتفاق واقعي حول الحدود البحرية وما يقع تحتها من موارد؛ اتفاق يقع في القانون بين العودة إلى “اتفاقية الهدنة” في أحسن الأحوال والمعاهدة الكاملة.
للعبرة إذا وجد من يعتبر؛ فصل من “مدرسة فن التفاوض”؛ عندما كان البحث يدور حول العلاقات الدبلوماسية الكاملة مقابل الانسحاب الكامل؛ ناظر الخارجية وارن كريستوفر، جاء إثر جولة مكوكية بجواب الرئيس السوري؛ وقوامه أن لسوريا علاقات دبلوماسية مع أكثر من مئة وأربعين دولة؛ دون أن يعني ذلك تبادل فتح سفارات في كل تلك الدول؛ وكازاخستان مثال على تلك الحال، حيث لسوريا علاقات دبلوماسية مع هذه الدولة، دون وجود سفارات في العاصمتين؛ جواب إسحاق رابين “إذا فلترجع له كازاخستان الجولان”.
سوف يمضي عهد رابين باغتياله؛ وسوف يستهلك حافظ الأسد من بعده حكومات إسرائيلية وعهودا؛ سوى أنه حين انتقل من “فن التفاوض” إلى “فن التوريث” صار الجولان في طريقه ليصبح مقاطعة سياحية مزدهرة في إسرائيل؛ وصارت سوريا نهبا لاحتلالات أربعة جديدة؛ وشعبها مشرد، لاجئ في أربع رياح الأرض.
أما في لبنان فتلاميذ “فن التفاوض” إياه ذهبوا إليه ضمن إطار تقديم إيران أوراق اعتمادها إلى الفائز في انتخابات الثالث من نوفمبر؛ والبلاد دون حكومة، ودون اقتصاد، ودون ليرة في الأسواق بعد نضوب القطع الأجنبي، ودون حبة دواء في الصيدليات؛ يتوهمون أن “فن التفاوض” يشتري لهم أمانا؛ فيما هو يؤدي بهم إلى ما أدى بغلبة أستاذهم ونظامه، مما يقف لبنان على أبوابه، وقد سموها جهنّم.
بعدما قوّضتم بأيديكم، ببلاهة من تقطعت بهم السبل، عرضا دوليا منطقيا لإنقاذ بلدكم، يؤمل بأن يستجمع اللبنانيون أنفاسهم، ويبدأون في إعادة بناء اقتصادهم بالجهد والتضحيات.
مشيتم على رجليكم على طريق التفاوض الخطر مع ألدّ أعدائكم، وحال لبنان ما هي عليه؛ على هذا الدرب الضيق المحفوف بكل الأخطار.
ما حفظتم من فنون حافظ الأسد يؤدي بكم حصرا إلى حال “سوريا الأسد”.