بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أضحت دول عديدة من تلك التي كانت جزءا من الإتحاد السوفيتي السابق في حالة قلق وخوف وتأهب. ولعل أكثرها قلقا ــ بعد جمهوريات البلطيق ــ هي جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة.
صحيح أن الأخيرة تختلف عن أوكرانيا لجهة بعدها الجغرافي عن أوروبا، وبالتالي عدم تطلعها إلى نيل عضوية حلف الناتو التي تعتبرها موسكو تهديدا لأمنها القومي. لكن الصحيح أيضا أنها منطقة صراع وتنافس بين قوى عدة بسبب موقعها وثرواتها وسكانها المنتمين إلى أعراق عابرة للحدود.
يقول عالم السياسة الأمريكي من أصل مجري جورج فريدمان في كتابه “الأعوام المئة القادمة” ما مفاده أن الإستراتيجية الروسية في المستقبل سوف تركز على خلق مناطق عازلة وعميقة على امتداد حدود البلاد ومحاولة استعادة النفوذ والسيطرة على بلدان الإتحاد السوفيتي السابق. ولا سيما تلك الواقعة بين بحر قزوين وحدود الصين نظرا لاحتواء هذه الرقعة على احتياطات ضخمة للطاقة. ويضرب مثلا بجمهورية كازاخستان التي إذا ما حاولت قوة عظمى أخرى (معادية أو منافسة) السيطرة عليها فإنها ستكون على بعد 100 ميل فقط من نهر « الفولغا » الذي يعد شريان الحياة للزراعة الروسية.
في مايو 1992 تم التوقيع في طشقند على إنشاء “منظمة معاهدة الأمن الجماعي لكومنولث الدول المستقلة” (CSTO) بين روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، كحلف دفاعي مشترك. وما لبث أن انضمت إليها أذربيجان وروسيا البيضاء وجورجيا (في عام 1999، رفضت أذربيجان وجورجيا وأوزبكستان تجديد المعاهدة وانسحبت منها). وكان من أبرز بنود المعاهدة الأمتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها وعدم انضمام الدول الأعضاء إلى تحالفات عسكرية أخرى، ومساعدة بعضها البعض في حال وقوع عدوان على أي منها أو تهديد ضدها. ويمكن القول أن الجزئية الأخيرة هي التي باتت تقلق الدول الأعضاء، خصوصا إذا ما طلبت منها موسكو ــ بموجب بنود المعاهدة ــ المساعدة في حربها الراهنة في أوكرانيا التي تواجه فيها دول الغرب، أي على غرار ما فعلته وتفعله روسيا البيضاء.
ومما لاشك فيه ان استجابة دول المعاهدة لأي طلب روسي حول الدعم ستترتب عليها مشاكل سياسية وعسكرية واقتصادية هي في غنى عنها. كما وأن رفضها الإستجابة يعني أن الروس سوف يتعاملون معها مستقبلا بنفس الطريقة في حال تعرض أي منها لعدوان خارجي، خصوصا وأن قوى عالمية (كالصين) وأخرى إقليمية (كتركيا) لا تخفي أطماعها في هذه الدول لأسباب استراتيجية أو اقتصادية أو ثقافية.
وبعبارة أخرى، فإن انجرار هذه الدول خلف موسكو في صراعها مع أوكرانيا سواء بالمشاركة الفعلية أو بتقديم المساعدات العسكرية والعينية واللوجستية سيعرضها لا محالة لنفس العقوبات التي تئن منها موسكو. وإذا كانت الأخيرة قادرة على الصمود لبعض الوقت بفضل امكانياتها الكثيرة والمتنوعة، فإن دول آسيا الوسطى ليس بمقدورها ذلك بسبب بنيتها الهشة وأوضاعها الاقتصادية الضعيفة، دعك مما تركته جائحة كورونا من آثار مدمرة على أحوالها.
ويكفينا في هذا السياق الإشارة إلى أنها باتت تشكو بالفعل من آثار المقاطعة والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا نظرا لاندماجها الكبير اقتصاديا ومعيشيا مع الاتحاد الروسي. فمثلا تسببت تلك العقوبات في انخفاض قيمة الروبل وتوقف نظام التحويل (SWIFT) في المصارف الروسية، وهذا أدى بدوره إلى انخفاض مداخيل الملايين من أبناء آسيا الوسطى العاملين في روسيا، ناهيك عن صعوبة إرسالهم لتحويلاتهم المالية بالعملة الصعبة إلى أوطانهم. ومن ناحية أخرى، فإن تدهور اقتصاد روسيا واستمرار الحرب في أوكرانيا يعني تسريح أعداد كبيرة من عمالة آسيا الوسطى من تلك التي تعمل في البلدين، وبالتالي اضطرارهم للعودة إلى بلدانهم الأصلية بكل ما سيشكله ذلك من ضغوط اجتماعية ومعيشية وسياسية قد تتحول إلى حالة من عدم الإستقرار السياسي التي قد يستغلها الغرب لإشعال “الثورات الملونة” من أجل الإطاحة بالأنظمة الحاكمة الموالية لموسكو وبكين.
والجدير بالذكر ــ طبقا للإحصائيات الرسمية الروسية ــ أنه دخل روسيا في الفترة ما بين 2019 و2021 ثلاثة ملايين عامل أوزبكي، و1.6 مليون عامل طاجيكي، ونحو 600 ألف عامل قرغيزي. وشكلت تحويلات هؤلاء عنصرا مهما في اقتصاديات بلدانهم. فقد شكلت مثلا نحو 30٪ و28% و 12% من الناتج المحلي الإجمالي لطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان على التوالي. وتتضح الصورة بشكل أفضل حينما نعلم أن العمال الطاجيكيين فقط حولوا إلى وطنهم الأم بين عامي 2019 و2021 أكثر من مليارين ونصف المليار من الدولارات (أي ثلاثة أضعاف قيمة جميع الصادرات الطاجيكية في تلك الفترة)، وذلك طبقا لتقرير أصدرته مؤسسة فيفياكندا الهندية.
ومما قيل وتردد كثيرا أن موسكو امتنعت حتى الآن عن مطالبة شريكاتها في معاهدة CSTO بتفعيل بنود المعاهدة تفاديا لإغضاب الصين التي لا ترغب في رؤية جمهوريات آسيا الوسطى تخوض حروبا خارجية تزيدها بؤسا فوق بؤس، وتضعف أنظمتها الأوتوقراطية الموالية، خصوصا وأن دول آسيا الوسطى تمثل أهمية قصوى لمشروع “الطريق والحزام” الصيني. ومن المعروف أن إجمالي ما استثمرته الصين في هذه الجمهوريات حتى نهاية 2020 بلغ نحو 40 مليار دولار، كما أنها أرسلت حوالي 7700 شركة صينية للعمل هناك، واستوردت منها قدرا كبيرا من احتياجاتها من الغاز، ناهيك عن قيامها ببناء قواعد عسكرية لها في طاجيكستان تحسبا لأي مخاطر القادمة من أفغانستان. ويمكن القول في السياق نفسه أن تردد دول آسيا الوسطى في الإعتراف بالمنطقتين الأوكرانيتين المتمردتين (دونيتسك و لوهانسك) كدولتين مستقلتين ربما كان بسبب تعرضها لضغوط صينية.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي