انتهى الكلام. ساد صمتٌ مريب. تبادلنا اللمحات والإيماءات المترقبة التي تتغلغلها النظرات إلى ساعات اليد. نرصد حبات الزمن تتساقط. طرحُ تفاصيل الرحلة على ذاك النحو، أمام هذه السيدة الغريبة التي ظهرت فجأة في حضرتنا، كثف من شعورنا الدفين بعبث مهمتنا. طول الانتظار، كثف كذلك من شعورنا بقتامة الوقت المقبل. الحقيقة الجليّة أمامنا الآن؛ هي الغياب التام للحقيقة. هل يظهر كانديد من جديد؟
لم يبلغنا أيٌّ من موظفي الاستقبال بالفندق عن وصول كانديد. بدون سابق اتفاق، هبّت سوزان واقفة. أعلمتنا باقتضاب، وهي تتجه نحو البهو الفاخر بالطابق الأول، بأنها ستسأل عنه.
وبقينا نحن قابعين حول منضدتنا العريضة، بينما انصرف الزبائن تباعا، فلم يبق بالمطعم سوانا. بل حتى العاملون في المطعم انفضوا عنه، لفترة من الراحة في ما يبدو، قبل أن يحلّ موعد وجبة العشاء. وطال بنا الانتظار، حتى قطع أمير الصمت قائلًا:
“لم تعد سوزان. لقد مضى على ذهابها أكثر من ربع ساعة، ولم تعد!”
وعقَّبت سيسي:
“معك كل الحق يا أمير، هذا وقت أكثر من كاف لرجعتها، فتعلمنا بأمر كانديد. هل نذهب لنلحق بها إلى مكتب الاستقبال؟ لقد مللت الجلوس هنا، كما أنّ ثقل الصمت المحيط يكاد أن يطبق فوق صدري!”
بالفعل، هببنا كلنا واقفين، وانطلقنا نحو البهو الرئيسي، يتقدمنا أمير وزياد، ثم الأب فرانسوا والأخت ماري، وفي المؤخرة مشيت مع سيسي وطرقات عصاها تنقر فوق الأرضية الرخامية.
لم نجد إلا نفرا من السائحين العرب، أما سوزان أو كانديد فلم نظفر بأثر لأحد منهما. تقدم الأب فرانسوا إلى موظف الاستقبال ليستعلم عنهما. جاء بعدها منكس الرأس وتمتم قائلًا:
“لقد طلب لهما سيارة أجرة، وانطلقا بها خارجين.”
تبادلنا النظرات ذاهلين. تطارحنا العبارات الغاضبة من سوء تصرف سوزان، واحتقار وثوقنا بها، ومصارحتنا لها بكل تفاصيل رحلتنا. أو كيف تسنى لها تركنا معلقين في فراغ الغموض هكذا! أما كان بإمكانها أن تعلمنا بمقصدهما، حتى ولو كان ذلك عبر رسالة مقتضبة تتركها لنا لدى موظف الاستقبال؟ هذا طبعا إن غضضنا النظر ولم نطالبها بأن تستأذن لبضع دقائق، حتى تأتي وتعلمنا بذاتها!
هنا نطقت الأخت ماري، وكانت قد التزمت الصمت كل ذاك الوقت، فقالت بكلمات إنجليزية واضحة المخارج والتعبير:
“يا أصدقائي، فلنهدأ جميعنا الآن. هل نسيتم أنكم في القاهرة؟ أتختارون أن تقضوا يومكم الأول في القاهرة، وأنتم محبوسون بين جدران هذا الفندق، حتى وإن بات سجنكم هو ذاك القفص الذهبي، كما يقولون؟ هيا بنا، فالسائق حودة ما يزال ينتظرنا في السيارة بالخارج. ما رأيكم في رحلة قصيرة، للاستمتاع برؤية غروب الشمس، من فوق هضبة الأهرامات؟”
كان لكلامها مفعول السحر، خاصة لدى الأب فرانسوا. فتبدل المزاج، وتبعناها مهللين، كأننا أطفال في طريقهم إلى رحلة للهرم.. حتى سيسي تبدت فرحة أخيرًا، وزالت عن ملامح وجهها تلك الريبة والانقباض اللذان تعلقا بها، منذ تلاقينا بالسيدة سوزان بمطعم الفندق.
بالفعل وجدنا حودة قابعا بالحافلة الصغيرة، متذمرا كعادته. ولكنه كان محقا كل الحق هذه المرَّة بالذات؛ فالحراس حول مداخل الفندق منعوه من الانتظار، فصار يسوق عربته حول الفندق، فيغوص في خضم ذلك الزحام الفظيع، ثم يعود من جديد خشية أن نكون في احتياج لخدماته. قال إنه قد فعل ذلك لأكثر من عشرين مرة منذ تركنا.. اعتذرتُ له. ثم تبادلنا أرقام التليفون، حتى نتواصل عبرها في المستقبل، فلا يضطر إلى الإتيان، إلا في حالة رغبتنا في الخروج من الفندق. طلبَت منه الأخت ماري التوجه إلى الأهرامات، فامتعض قليلًا، إذ غمغم بأنّ الطريق سوف يصير مسدودا تمامًا في هذا الوقت. لكنه فضل أن يسوق وسط الزحام القاتل، عوضا عن أن يبقى يدور حول الفندق، كما ظل يفعل لمدة ثلاث ساعات.
حينما عبرنا نهر النيل أشار إليَّ حودة أن أعلمهم بخروجنا من القاهرة ودخولنا إلى أول محافظة الجيزة حيث الأهرامات. ثم أشار إلى دار الأوبرا الواقعة على اليمين، وبعد قليل لوَّح نحو قبة جامعة القاهرة، ثم حديقة الحيوان، متفاخرا بأنهما أقدم جامعة، وأقدم حديقة حيوان بالشرق الأوسط. ترجمت إليهم ما قاله، وأنا متعجب من سعة اطِّلاع ذاك الشاب البسيط. علَّق زياد متضاحكًا:
“حقّ ما يقولون إن مصر أم الدنيا!”
وعقَّب الأب فرانسوا:
“في الحقيقة، أنا مذهول تمامًا! فمظاهر التحضر من حولنا فاجأتني. كنت أتوقع معاينة النيل ومن حوله بضعة أراض مزروعة، ثم رمال وصحاري ممتدة، وجِمال، وبدو يأخذوننا من مكان إلى آخر. لم يخطر لي أن أجد مثل هذه الجسور المنمقة، وتلك العمائر الشاهقة، بل والشوارع ذات الأربع حارات، و..” ولكنه توقف برهة ليضحك، ثم أضاف:
“.. وإن لم أجد سيارة واحدة تلتزم بتلك الحارات حتى الآن، ولا حتى سيارة السيد حودة، سائقنا اللطيف!”
شعرت بالفخر بمصريتي، وقلت في نفسي: إذا كان ينطق بمثل هذا الغزل في القاهرة، فما بالك لو رأى الإسكندرية، مدينتي المحبوبة!
كان تدفق السيارات معقولا، حتى وصولنا إلى ميدان الجيزة. ولكن ما إن دخلنا إلى مشارف شارع الهرم، حتى توقفنا عن الحركة تماما. ثم بدأت رحلة جديدة، صرنا فيها نحتفل كلما اجتزنا مترا، وكأنه إنجاز من إنجازات هرقل الاثني عشر!
كأنها العادة، أو ربما الهوية الشامخة، فقد حدث أن دفنت رؤية الأهرامات الثلاث معها كل ضغينة ظلت معلقة في نفس أيٍّ منا، من بعد واقعة اختفاء سوزان لاكروشيي مع كانديد، بتلك الكيفية الملتبسة. حلّ سلام وسكينة يحوطاننا. اختصر الأب فرانسوا مشاعرنا، في تعليق عفوي صدر منه، بمجرد أن دلف من باطن العربة، إلى الأرض الصخرية، ورفع ناظريه نحو قمة الهرم الأكبر الشاهقة، فتمتم قائلًا:
“يا إلهي!”
سرعان ما احمرت السماء فوق مدينة القاهرة الكبرى، المسترخية في هدوء أسفل هضبة الأهرامات، ثم غربت شمس يومنا الأول فوق أرضها.
اقترح حودة أن نتجه نحو حي “الحسين” قبل أن يحل الظلام، فنتناول عشاءً مصريا أصيلا، من كباب وكفتة، عند “الدهَّان” هناك، ثم نحتسي الشاي في مقهى “الفيشاوي” الشهير. سررت بالفكرة، فطرحتها عليهم. رحبوا بغير حمية، إذ لم يعرفوا شيئا عن المكان، أو الجو الأصيل الذي كان ينتظرهم.
اشمأزت سيسي، ومعها الأب فرانسوا من فكرة التهام طائر الحمام، الذي يعتبرونه في بلادهم، طائرا أليفا هم يقدّمون إليه الطعام، لا هو الذي يقدَّم إليهم طعاما! منعتهم قسرا من تناول السلطات غير المطهية، فاستجابوا ممتعضين. لكنّ قطع الكباب، والكفتة المشوية، تكفلت برسم الهناء فوق سماتهم.
وبالفعل، كما نسق حودة تماما، توجهنا إلى مقهى “الفيشاوي”، عبر حارة ضيقة متفرعة من الميدان الفسيح.
ولكن فاجأنا آذانُ العشاء بينما نحن نسير إلى هناك، ولم يكونوا سمعوا الآذان من قبل. لم أتوقع ردة الفعل التي كادت أن تُسقط سيسي وتطرحها أرضا، من فرط مباغتة الصوت المدوي الذي انطلق عبر مكبر الصوت. وتلفت الأب فرانسوا بغتة، ولسان حاله يتساءل عما يكون كنه ذاك الإنذار. بالطبع طمأنّاهما بأنّ هذا الصوت هو مجرد دعوة للصلاة، قادمة من “مسجد الحسين” العريق، القائم على بعد بضعة أمتار منا.
تساءل الأب فرانسوا، مهدئا من روعه، عن إمكانية زيارته للمسجد، فرد زياد مشجعا:
“لا أرى أيّ مانع. كل ما هنالك هو أن تخلع حذاءك عنك، كما سنفعل كلنا، وعلى سيسي أن تغطي شعرها بمنديل. أما عن الأخت ماري، فشعرها مغطى، ولا تحتاج إلى أي إضافة!”
لكنني سارعت بالرد:
“مهلًا يا عزيزي زياد! فما يسري على بيروت ومساجدكم بها، قد لا يسري على مثيلاتها هنا. عندكم، تستطيع المرأة المسلمة الزواج من رجل مسيحي ماروني بكل بساطة ويسر، ولكن هنا لا يجوز. حتى نأمن العواقب الوخيمة، فلندع الأخ حودة يعود إلى الجامع، بعد انتهاء الصلاة، فيستأذن من الإمام في مسألة دخول رجل دين مسيحي إلى المسجد، قبل أي شيء.”
وافق حودة مذعنا، فالفكرة تخصه منذ بدايتها. أما سيسي فعقبت بعصبية:
“أما عني، فلست أريد الدخول إلى أيّ مسجد! ثم ما الذي يمكنني في كل الأحوال، أن أبصره داخله؟ سوف أبقى بالخارج، حتى تتمّوا الزيارة.”
هدّأت الأخت ماري من روعها، فطمأنتها أنها ستبقى معها بالمقهى، بينما يدخل الباقون إلى المسجد، في حال سمحوا لهم بالدخول.
بدا زياد متذمرا. وما إن وصلنا إلى المقهى، حتى انفجر قائلا:
“حينما كنا في براج، وأعلنت امتناعي عن الدخول إلى المعبد اليهودي، سخرتم مني، وبالذات أنتِ يا سيسي. أما الآن، فمن حقك ـ بالطبع ـ الامتناع عن دخول المسجد، ولا غبار عليكِ!”
فعلقت سيسي ساخرة:
“يا لك من شاب أهوج! أتعتقد أني أمتنع عن دخول الجامع لأسباب دينية؟ ألم تدرك إلى الآن أنني لا أعتقد في أيّ شيء، ألا ترى أنّ دخولي مسجدا أو كنيسة أو معبدا سيان لديَّ في جميع الأحوال؟ كل ما في الأمر هو أنني لم أبدل ثيابي منذ كنا في روما بالأمس، ومن ساعتها ونحن نطير ونسير ونصعد ونهبط. والآن تريدني أن أخلع حذائي، لأدخل الجامع؟ ربما يعتبر أحدهم تلك الرائحة الناضحة من جواربي، واحدة من الأسلحة الكيميائية المدمرة، فتتسبب زيارتي في نشوب حرب عالمية ثالثة!”
ضحك زياد، وضحكنا. ثم سرعان ما اعتذر لها عن سوء ظنه بها. دارت أكواب الشاي، المغموسة بداخلها ورقات النعناع الخضراء. وطلب زياد نارجيلة له ولسيسي ولحودة السائق، وعبَّر الأب فرانسوا عن إعجابه برائحة الدخان العطرية، لكنه امتنع عن مشاركتهم التدخين.
ثم ذهب حودة عنا، وما لبث أن عاد بشوشا، معلنا:
“الشيخ ’علي التائب‘، أحد الأئمة هناك، في انتظارنا.”
تلك كانت أوّل مرة أدخل فيها إلى باحة مسجد. خلعت عني الحذاء، وأنا أتفكر في كلام سيسي، فأكتم الضحك في نفسي، لئلا يُفسَّر على أنه لَوْن من الاستهزاء. فوجئت بالمساحة الهائلة داخل الجامع العريق، وعشرات الأعمدة الرخامية القائمة صانعة خمسة أروقة متوازية، تمتد إلى حدود البصر. لاقانا الشيخ علي السنِّي بسمرة وجهه البشوش المائلة إلى الحمرة، وقال مرحبا:
“أهلًا بكم في مسجد ومقام سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما وأرضاهما. المسجد العريق عمره نحو ألفيّة من الزمان، لكن تحديدا ثمانمائة واثنان وستون عاما بالتمام والكمال. فلقد بدأوا بناءه في عصر الفاطميين في عام خمسمائة وتسعة وأربعين هجريا، الموافق للعام مائة وأربعة وخمسين بعد الألف ميلادية. ولكن قولوا لي أوّلا، ما هو سر اهتمام الفرنسيين بهذا المسجد اليوم بالذات؟”
ترجم زياد ما قاله الشيخ “علي التائب” إلى آذاننا، وبالأخص الأب فرانسوا، فسارع الأخير بالسؤال:
“ومَن مِن الفرنسيين أتى إلى المسجد أيضا، يا شيخ ’علي‘؟”
تكفل أمير بترجمة سؤال الأب فرانسوا للشيخ علي. فرفع الشيخ النحيل ذراعه اليمنى، وبدأ يحك ذقنه الأبيض الأشعث، ما بين إبهامه وسبابته، ولمعت عيناه السوداوان، بينما تبسَّم بحذق وهو يردّ:
“قبيل المغرب، جاءت إلى هنا عائلة فرنسية كاملة؛ شيوخ ورجال وشباب وشابات، قبيلة كاملة! باتوا يطلبون ـ مثلكم تماما ـ زيارة الجامع. ألا ترون في الأمر غرابة، وخاصة مع وضع السياحة في مصر هذه الأيام؟ سألني أحدهم أسئلة غريبة، مريبة، وقد ترجمت كلامنا لهم شابة من بينهم، تنطق العربية الركيكة، بعدما ادَّعت أنها ما زالت إلى الآن تدرس بالجامعة في مصر، رغم كونها في عمر أكبر بناتي!”
مال نحوي أمير، وهمس في أذني:
“سوزان لاكروشيي، بلا أدنى شك!”
قرر زياد بفطنة تغيير مسار الحديث، فسأل الشيخ:
“هل يوجد رفات الحسين بن علي هنا بالمسجد؟ سمعت البعض يقول إن رفاته في العراق، وبعضهم يقولون في سوريا، في ما يقول آخرون إنه في إيران!”
فرد الشيخ “علي التائب” بلهجة واثقة:
“رأس سيدنا الحسين وحدها ـ كما يقال ـ مدفونة هنا بالضريح. قام الأولون بنقلها من فلسطين إلى هنا، خوفا عليها من غشم الصليبيين الزاحفين إلى هناك في تلك الأيام. تعالوا لأريكم الضريح.”
تبعناه صامتين. عند باب جانبي بالجدار الأيمن للبهو المترامي، دلفنا إلى غرفة مربعة رحبة، يتوسطها بناء مكعب مرتفع، تعلو زواياه أربع مآذن صغيرة. كان جداره منقوشا بآيات قرآنية، تتخللها شبابيك خشبية معشقة، ولكن مصمتة، فلا تتيح الرؤية عبرها. وهو محاط بسياج من الخشب والمعدن، يحول ما بين الضريح وبين عبث المريدين والزوار.
عدنا بعد هذا اليوم الحافل إلى الفندق، متعَبين للغاية. وخلال دقائق، كنا قد غيرنا من ثيابنا، واستعددنا للنوم. ولكن فجأة سمعنا طرقا متتاليا على باب الغرفة، فأضاء أمير الفانوس الذي توسط سريرينا، ثم هبّ من سريره مستطلعا. دخل الأب فرانسوا الحجرة وهو ما يزال في هندامه ذاته الذي كان عليه طوال اليوم، معتذرا، وهو يفض ورقة بين يديه قائلا:
“جاءني شاب من العاملين بالفندق قبل دقائق، وطرق بابي، وقدّم لي هذه الرسالة، معتذرا بأن أحدا لم يرني حين عدنا من الخارج. وقد زعم بأنّ امرأة تركت الرسالة بمكتب الاستقبال، راجية أن يسلموها إياي الليلة للأهمية.” ثم شرع يقرأ الرسالة بالفرنسية:
“عزيزي الأب فرانسوا: أود أوّلا أن أقدم اعتذاري عن ترككم هكذا بالمطعم دون أن أعلمكم بخروجي بصحبة كانديد وعائلته. نعم! بالرغم من غرابة هذا الأمر، وصعوبة تصديقه، إلا أنني بمجرد سؤالي الموظف عما إذا كان السيد كانديد فولتير قد عاد من الخارج، حتى أشار إليَّ باتجاه رجل، يجلس إلى أريكة بين جمع من السائحين، أمام الحائط المواجه للمكتب، فتوجهت نحوهم على الفور. قدمت نفسي، فهبّ الشاب واقفا، بقميصه الهفهاف، وسرواله القصير المنفوخ، وشعره الأشقر المجعد، ثم انحنى وقبّل يدي! وسرعان ما قدم لي عائلته؛ ليدي كوناجوند، وأخاها البارون، بروفيسور بانجلوس، وحتى كاكامبو، ومارتن، والمرأة العجوز؛ صديقة زوجته.. نعم، الجميع كانوا هناك!”
“ثم أفصح لي السيد كانديد عن رغبته في زيارة جامع الأزهر. لكنه طالب بأن نذهب إليه على الفور، لأنه سمع بأن المشيخة تغلق أبوابها في الثالثة عصرا!”
“بكل أسف، لم أتمكن من الاستئذان لإعلامكم، إذ خرجنا على الفور. فلم يكن متبقيا من الوقت عندئذ، سوى أربعين دقيقة قبل الموعد. وبالفعل استقللنا سيارتي أجرة واتجهنا إلى هناك. وصلنا قبل الموعد بدقائق، فطلب كانديد مني أن أسعى إلى أن يتقابل مع فضيلة شيخ الأزهر، فما كان مني إلا أن أذعنت وترجمت مطلبه. لكن تعذر ذلك بالطبع، لسبب أو لآخر. بيد أنهم سمحوا لنا بلقاء أحد مساعديه.”
“لست أتعمد الإطالة، لكن اللقاء لم يكن ناجحا بالمرة؛ إذ أصر السيد كانديد على أن يبادر بسؤال الشيخ عن “المؤمنين الحقيقيين”، مما جعل الشيخ يعتقد بأنّ في سؤاله إيحاء بأنه لا يعدّه ـ بل ولا يعدّ مشيخة الأزهر برمتها ـ من المؤمنين الحقيقيين! واعتقد على الفور بأنه مختل، أو متطرف من اليمين الغربي، أو ـ في أفضل الأحوال ـ جاء ليسخر منه! انتهى الأمر بأن اعتذر الشيخ ـ بأدب جم ـ عن اضطراره إلى إنهاء اللقاء لأمر هام، ثم دعانا إلى زيارة مسجد الحسين القريب من المشيخة، علّنا نجد ضالتنا هناك.”
“نصحته بالسير على الأقدام، إذ كانت الشوارع مغلقة تماما لأنّ الساعة كانت ميعاد انصراف الموظفين. فوافق مبتسما. في الطريق، شرح لي أمر زياراته لمختلف البلدان ـ تماما مثلما تفضل أصدقاؤك بسرده ـ باحثًا عن المؤمنين الحقيقيين. لكن سرعان ما توقف عن السير، وتبدلت سحنته، فاستحال لونه، وشابه حزن أليم، إذ وجد معظم الناس يعتزون بطريقتهم الخاصة في العبادة، دون بقية العبادات، تماما مثلما كانوا يفعلون قبل مائتين وخمسين عاما! بل إنّ التقاتل ما بينهم ما زال مستمرا، للأسباب ذاتها، هذا إن لم نقل إنه ازداد تفشيا بسبب تطور أساليب القتال، وتنوعها أيضا.”
“لم يتبدل أسلوبه، أو تتغير وجهة نظره ـ مع كل أسف ـ بعد زيارة مسجد الحسين. وها أنا أكتب إليك هذه الكلمات لأعلمكم عن عزمه زيارة أديرة ’وادي النطرون‘ عند صباح الغد الباكر، وأتمنى أن نلقاكم هناك. الإمضاء، سوزان لاكروشيي.”
انتهى الأب فرانسوا من القراءة، فطوى الرسالة بعناية، ثم سأل:
“هل يعرف أحدكم شيئا عن أديرة وادي النطرون؟”
قلت على الفور:
“بالطبع! وهي ليست ببعيدة عن مدينتنا، الإسكندرية، على بعد نحو ساعتين من هنا.”
“حسن. وقد طلبت من حودة المجيء في التاسعة من صباح الغد. أتعتقدون بأنّ الوقت كاف، أم نتصل به الآن ليبكِّر عن ذاك الموعد؟”
نظرت نحو أمير، فنطق بسرعة:
“بل ينبغي أن ننطلق من هنا في الثامنة، لنلحق بكانديد قبل العاشرة، فمن يدري ربما لا يجد مؤمنيه الحقيقيين هناك، فيفر منا نحو موقع جديد!”
ثم نظر نحوي، وهو يقول:
“لقد تبادلتما الأرقام، صحيح؟”
فأمسكتُ الهاتف واتصلت به، وكان ما يزال بعد في طريقه إلى بيته بحيّ بعيد يدعى “عين شمس”. تفاهمنا على أن يأتي في السابعة صباحا، فوافق ناقما. ثم مر الأب فرانسوا بغرفتي زياد، وسيسي، ليعلمهما، ولحسن الحظ قررت الأخت ماري أن تبيت الليلة على أريكة في غرفة سيسي، فلم نحتج للمرور عليها في الصباح.