لكن ذلك لا يتناقض مع أن موقع وصغر حجم وتنوع لبنان، كانت عوامل لها أكبر الأثر فيما آلت اليه الامور.
سبق لـ« أليكس توكفيل » أن أشار إلى مميزات الأمم الصغيرة والمخاطر المعرضة لها. الكثير مما وصّفه ينطبق على لبنان: أن الأمم الصغيرة تفوق الأمم الكبيرة من حيث الرخاء والاستقرار. لأن ضعف الشعب وقلة عدده يلطف طباعه ويجعله دائم الالتفات نحو رخائه الداخلي. وعندما يحلّ طغيان في أمة صغيرة يكون أشد وقعا على الناس مما قد يكون في أي مكان آخر، لانه يتغلغل، لضيق المجال، في ثنايا هذا المجال بأسره. لكن الطغيان نادراً ما يحصل في الامم الصغيرة لأن الحرية تشكل الشرط الطبيعي لها. ولطالما كانت الأمم الصغيرة مهدا للحرية السياسية. لكن الأمم الصغيرة تفتقد عامل القوة الذي يسيّر الأمم الكبيرة. لذلك يستنتج عدم جدوى أن يجسد شعب ما صورة الرخاء والحرية اذا كان معرضا كل يوم للخراب أوالغزو!!
وبالتالي ما لم تتوفر للأمم الصغرى شروط خاصة بها فإنها لن تلبث، عاجلاً او آجلاً، أن تُلحَق قسراً بالأمم الكبرى أو أن تتحد معها طوعاً.
لكن « ريمون آرون » ينتقد تشاؤم توكفيل ويجد أن قراءة هذا النص اليوم تثير بعض الغرابة، بحيث نتساءل ماذا كان سيقول كاتبه أمام العدد الكبير من الامم الصغيرة التي تبرز وغير القادرة على الدفاع عن نفسها! ربما يعيد النظر في قراءته هذه، مضيفاً ان الأمم الصغيرة تكون قادرة على البقاء إذا ما توفرت لها الحماية اللازمة من النظام الدولي.
كأن توكفيل وآرون يطرحان إشكالية لبنان، صغير المساحة، مع محيطه! فلقد تعلّق مصيره دائما بالأدوار التي لعبها المجتمعان الإقليمي والدولي تجاهه. فلبنان توفرت له هذه الحماية في أحيان وفُرِضت عليه تسويات لغير صالحه في أحيان أخرى.
لم يكن قد مضى على استقلال لبنان أكثر من 5 سنوات عندما احتلت إسرائيل فلسطين، فتسببت بقطيعة عن المحيط الطبيعي الفلسطيني، وأغرقته باللاجئين الفلسطينيين، ما سيرتب تداعيات هائلة على توازنه الديموغرافي الداخلي ومصيره.
إذاً، واجه لبنان، منذ انطلاقته، التحديات الاقليمية؛ وكان يتعرّض للاهتزاز في كل مرة يخرج فيها عن حياده الضمني الذي التزمه منذ نشأته، وتم التأكيد عليه فيما سمي بالميثاق الوطني بين بشارة الخوري ورياض الصلح؛ وأصبح في صلب دستور الطائف.
لكن الخلل الأكبر الذي ترك تداعيات لا تزال تتفاعل حتى الآن، كان اتفاق القاهرة عام 1969، الذي رمى بواسطته النظام العربي (برضى وتواطؤ اللبنانيين انفسهم) ثقل القضية الفلسطينية على أصغر بلد عربي وتركه لمصيره في مواجهة إسرائيل. أدّت تداعيات الخلل الداخلي، الذي سببه السلاح الفلسطيني، إلى إفقاد لبنان لسيادته وانفجار العنف ودخول الجيش السوري، بغطاء اقليمي ودولي. وتلاه تحالف بعض اللبنانيين مع إسرائيل التي احتلت لبنان ولم تنسحب منه إلا في العام 2000. وكان لبنان قد سُلّم برمته إلى سوريا من قبل الأميركيين ورضى العرب، بعد إبرام اتفاق الطائف في التسعينيات، لتغطية الأسد للدخول الاميركي الكويت لإخراج صدام حسين منها.
أُخرج السوري بضغط غربي – أميركي إثر اغتيال الحريري وانتفاضة 2005، فحلّت محله إيران التي جرّت لبنان الى حرب صيف 2006. أما غزوة حزب الله لبيروت عام 2008 فأنتجت اتفاق الدوحة، بغطاء دولي واقليمي. فكان الإسفين الأساسي الذي قضى على الديموقراطية لأن حزب الله استطاع فرض سلاحه في المعادلة الداخلية: شعب، جيش، مقاومة؛ وسُمح له باستخدام الثلث المعطل الشهير. فتعطّلت الحياة السياسية وفرضت أعرافاً جديدة. أدّى كل ذلك الى ممارسات مخالفة للدستور والقوانين. كان الفساد والعنف والقتل والاغتيال، لخدمة أطراف اقليميين، أدوات اساسية لفرض هذه السياسات واخضاع اللبنانيين. أدى كل ذلك ما نعاينه من انهيار.
يترتب عن ذلك مسؤولية معنوية كبيرة تقع على الأمم المتحدة وعلى اللاعبين الكبار من دوليين وعرب لمساعدة اللبنانيين على استعادة حريتهم وسيادة بلدهم وتخليصهم من الاحتلال.
هناك اهتمام دولي دائم بلبنان. وشكوى البعض من أنه متروك غير دقيق، فلقد صدرت بحقه عشرات القرارات الدولية، التي يعيش بظلها. والمجتمع الدولي يضغط الآن لدرجة ان قامت سفيرتا فرنسا واميركا بزيارة خاصة للسعودية من أجل المساعدة.
مع ذلك ربما لا يمارس المجتمع الدولي ضغطه بالقوة والفعالية المطلوبتين، ولا في المكان والوقت المناسبين أو على الأطراف المناسبة. كما ان مصالحه قد تتناقض مع مصلحة الشعب اللبناني.
الموقف الفرنسي، بالرغم من حسن النوايا، لم يخرج عن نطاق دبلوماسية الجمع بين الشيء ونقيضه، تخليص لبنان مع محاولة الابقاء على علاقة جيدة مع ايران وحزبها. وهذه كانت « كعب أخيل » محاولات الرئيس الفرنسي. لا يمكن ان تنقذ بلداً بالتعاون مع مسبب مشكلاته. ولا يمكن ان تفصل بين مكونَيّ حزب الله العسكري والسياسي، فيما الحزب نفسه يعلن اندماجهما؛ تصريح نعيم قاسم عام 2012. الأمر الذي وعته ألمانيا وبريطانيا والنمسا، فاعتبروه حزبا ارهابيا. كما ان فرنسا لا تعترف بمكونات الثورة السياديين، وتفضل التعاون مع المتعاطفين مع حزب الله سراً أو علناً.
أما الثوار الناشطين فلم يتمكنوا حتى الآن، أكثر من استكمال النضال الافتراضي. وهم فئة مكونة في معظمها من كوادر الطبقة الوسطى البعيدين نسبياً عن نبض الشعب وهمومه. ما يرتب عليهم المزيد من التعاون لتوحيد جهودهم وتوسيعها للمطالبة بتحرير لبنان من الاحتلال؛ ويفرض على السياديين توحيد برنامجهم والتنسيق مع المغتربين من أجل المطالبة بمؤتمر دولي لتحييد لبنان عن كل الصراعات وتطبيق جميع قرارات الشرعية الدولية بتوسيع مهام اليونيفل.
هذا في الوقت الذي تشير فيه الأحداث إلى أن السلطات الحاكمة تجهد لتوحيد صفوفها وتنفيذ الأجندة الإيرانية في فرض التطبيع مع النظام السوري. فمن تكليف رجل النظام السوري التاريخي، الذي أثرى من استغلال البلدين، بتأليف حكومة؛ إلى توظيف بعض الأبواق الصحافية لبث سيناريوهات ترويجية لمطالب الاحتلال الإيراني لإضعاف الروح المعنوية لدى المطالبين بالسيادة والتحرير، بزعم تخلي الدول الغربية والعربية عن لبنان وانتهاء دوره ودور مسيحييه وإلحاقه بسوريا. كما بدأ ترويج توقعات إحصائية دعائية للانتخابات تدعم السلطة.
لم يعُد مقبولاً ان يُعلن المجتمع الدولي عقوبات، على المسؤولين السياسيين الفاسدين ومعرقلي الإنقاذ، ولا ينفذها؛ بل ويطالبهم، هم أنفسهم، بتشكيل حكومات إصلاحية!
لم يعد مجدياً التخلص من المشكلة اللبنانية عبر حلول آنية تؤجل الاستحقاقات والانهيار لفترة، ثم تستعاد مسيرة جهنم نفسها. المطلوب ان يضغط المجتمع الدولي بأقصى العقوبات على جميع المسؤولين اللبنانيين لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ودعم مبادرة البطريرك وتحرك الفاتيكان، لمؤتمر دولي.
كما يجب الضغط على إيران، فلا يجب ان يكون الشعب اللبناني ضحية التسويات الاقليمية مرة أخرى. كفانا موتاً ودماراً.
monafayad@hotmail.com