يخضع امتلاك الأفراد والمجموعات للأسلحة في اليابان لرقابة وقيود مشددة، على العكس من بلدان أخرى، إلى حد أن الفريق الوطني للرماية لا يجد حرية في تمارينه، بل حتى القلة التي يُسمح لها بامتلاك البنادق الهوائية يجب عليها اجتياز اختبار تحريري وآخر عملي لإثبات أنه يجيد الرماية بدقة لا تقل عن 95%، ناهيك أن عليها الخضوع لتقييم الصحة العقلية واختبارات المخدرات وفحص السجل الجنائي وسجل علاقاتها الأسرية والعاطفية والاجتماعية.
إن هذه الصرامة في اقتناء الأسلحة هي التي جعلت اليابان واحدة من أكثر بلاد العالم أمانا، بدليل أنها طوال العقود الخمسة الماضية لم تشهد حوادث عنيفة صادمة ذات طابع سياسي سوى هجوما واحد بغاز السارين السام على قطار الأنفاق في طوكيو سنة 1995 شنته طائفة ارهابية صغيرة تدعى “أوم شينريكيو” (طائفة دينية نشأت عام 1984 في طوكيو على يد “شوكو أساهارا”). غير أن هذا لم يمنع اعتناق أناس مضطربين لأعمال عنف عشوائية ليست لها دوافع سياسية على غرار ماحدث عام 1990 حينما نجح شاب يميني في اغتيال زعيم الحزب الإشتراكي “إنجيرو أسانوما”، ثم حينما نجح رجل مختل عقليا في العام نفسه في قتل وزير العمل “هيوسوكي نيوا”، وثالثا حينما تمكن شخص يميني متطرف من قتل حاكم ناجازاكي “هيتوشي موتو شيما”. وفي عام 2002 طعن رجل يميني النائب عن الحزب الديمقراطي “كوكي إيشي” أمام منزله ما أدى إلى وفاته. إلى ذلك حدثت عدة عمليات اغتيال فاشلة منها: محاولة قتل رئيس الوزراء الأسبق “موريهيرو هوسوكاوا عام 1994، ومحاولة اغتيال عمدة بلدة ميتاكي الصغيرة عام 1996.
ومن هنا كان اغتيال رئيس الحكومة الأسبق، وأحد زعماء اليابان الأطول بقاء في السلطة في العصر الحديث “شينزو أبي” في الثامن من يوليو الجاري بمدينة نارا التاريخية (غرب البلاد) حدثا صادما للكثيرين داخل اليابان وعلى مستوى العالم الخارجي، خصوصا وأن إطلاق النار عليه وقع خلال حملة انتخابية لإنتخاب أعضاء مجلس الشيوخ (المجلس الأعلى للبرلمان المعروف باسم الدايت) أي أثناء ممارسة الديمقراطية التي تفتخر بها اليابان في وسط جغرافي لا تعرف دوله ــ ما عدا كوريا الجنوبية وتايوان ــ هذه الممارسة الحضارية. ولعل ما ساعد المجرم أو المجرمين على تنفيذ جريمتهم بنجاح هو أن الاحتياطات الأمنية إبان الحملات الانتخابية عادة ما تكون مخففة بسبب عدم وجود سوابق عنف فيها.
أما المفارقة فهي أن آبي، الذي شغل منصب رئيس الوزراء ورئيس الحزب الديمقراطي الحر الحاكم من عام 2006 إلى عام 2007، ثم مجددا من عام 2012 إلى عام 2020 حينما استقال لأسباب وصفت بالصحية (مشاكل في القولون)، تعرض جده لأمه “نوبوسوكا كيشي” الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1957 إلى 1960 لست محاولات طعن بالسكين عام 1960 من قبل جماعة يمينية، وذلك بعد فترة وجيزة من توقيعه معاهدة أمنية مختلف عليها مع الولايات المتحدة، لكنه نجا بأعجوبة لأن السكين لم يصل إلى شرايينه الرئيسية. والغريب أيضا أنه خلال عام 2000 تعرض منزل آبي ومكاتب أنصاره في مدينة شيمونوسيكي بمحافظة ياماغوتشي لهجوم بقنابل المولوتوف أكثر من مرة، وكان الجناة أعضاء من جماعة “ياكوزا” (كلمة تطلق على عموم المنظمات الإجرامية)، وقد قيل وقتها أن السبب هو رفض آبي دعم مرشح الجناة لرئاسية بلدية شيمونوسيكي عام 1999.
يرى بعض مراقبي ومحللي الشؤون اليابانية أنه، على الرغم من أن حادثة اغيال آبي عمل فردي إرتكبه شخص مضطرب، إلا أنه يجب النظر إليه كعمل ذي دوافع سياسية، وإنْ نفى الجاني أن دافعه كان معتقدات آبي السياسية ذات المنحى القومي. فالجاني الذي تمّ اعتقاله ويخضع الآن للتحقيق تبين أنه خدم في سلاح البحرية التابع لقوة الدفاع الذاتي ثلاث سنوات حتى عام 2005، وبالتالي ربما تأثر بخطاب المناوئين لسياسات آبي وحزبه الحاكم الداعية لتعزيز أمن البلاد من خلال مراجعة الدستور لإلغاء الدور السلمي للجيش أي إلغاء المواد التي تقيد اليابان لجهة بناء جيش وطني قوي ذي دور داخلي وخارجي.
والمعروف أن آبي لم ينجح خلال وجوده الطويل في السلطة في تحقيق هذا الهدف، لكنه تمكن من تبني سياسة خارجية واضحة، ونجح في رفع ميزانية الدفاع بشكل مطرد. كما نجح في إعادة تفسير مواد الدستور الياباني لما بعد الحرب بطريقة تتيح للقوات اليابانية القيام بأعمال عسكرية خارج الحدود لمساعدة دولة حليفة أو بهدف المحافظة على السلم العالمي وحماية طرق إمدادات الطاقة من القراصنة والإرهابيين، أو لموازنة نفوذ الصين في منطقتي المحيط الهندي والمحيط الباسيفيكي من خلال مناورات مشتركة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والهند، وهي الدول التي تشكل مع اليابان ما يٌعرف بتحالف “كواد” الأمني، والذي كان آبي وراء فكرته.
لقد تعاطف اليابانيون مع زعيمهم المغدور كما لم يتعاطفوا من قبل مع أي من أسلافه. ولم ينعكس ذلك فقط في الحشود التي ودعته بالبكاء، وانما أيضا في نتائج الانتخابات النصفية لمجلس الشيوخ، حيث منح المقترعون أصواتهم للحزب الحاكم، الذي يعد آبي أحد رموزه الكبيرة، ما جعل الحزب يحافظ على أغلبيته المريحة بحصوله مع حليفه الصغير المتمثل في حزب كوميتو على 76 مقعدا من أصل 124 مقعدا طــُرحت للمنافسة.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين