أيّام الغضب لا تأتي بشيء

0
 في الحقيقة، لا أدري لماذا كلّ هذه الضجّة وكلّ هذه المنائح الفلسطينية والعربية الآن، إثر إعلان الرئيس الأميركي ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. صحيح أنّ العالم لم يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل حتّى الآن، غير أنّ إسرائيل أعلنتها عاصمتها منذ قيامها وأنشأت فيها البرلمان- الكنيست والوزارات والمؤسسات الحكومية، كما إنّ كلّ زعماء العالم الذين يأتون إلى إسرائيل يجرون محادثاتهم الرسمية في المدينة.

العالم لم يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما لم يعترف بها عاصمة لأيّ كيان سياسي آخر، وذلك لأسباب لها علاقة بالقرار الأممي الصادر عام 1947 والداعي إلى تقسيم فلسطين وإنشاء دولتين- يهودية وعربية. لقد استثنى القرار مدينة القدس ومحيطها من التقسيم جاعلاً منها كياناً دوليّاً بسلطة خاصّة. هذا هو السبب الرسمي لعدم الاعتراف بها عاصمة لأيّ كيان سياسي، وليس هنالك أيّ سبب آخر.

بعد حرب حزيران (يونيو) عام 1967 واحتلال الضفّة الغربية، أعلنت إسرائيل ضمّ المدينة وأجرت عليها القوانين الإسرائيلية المدنية، بينما أبقت الحكم العسكري في سائر مناطق الضفّة الغربية. ليس هذا فحسب، بل قامت السلطات الإسرائيلية بتوسيع حدود المدينة لتضع تحت سلطاتها البلديّة مناطق وقرى فلسطينية كثيرة في ضواحيها البعيدة والقريبة، جاعلة منها أورشليم الكبرى.

منذ ذلك الوقت، لم يفعل الفلسطينيون، ولا العرب، شيئاً. لقد كانوا مشغولين جدّاً بمؤتمرات القمّة وبجبهات الصمود والتصدّي وإعداد العدّة لتحرير بيانات الاستهجان والاستنكار وتصدير شعارات الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة.

وخلال كلّ هذه العقود من الاحتلال، أنشأت إسرائيل عشرات المستوطنات، وهي أحياء كبرى يسكنها عشرات بل مئات الآلاف، وهذه الأحياء تُحدق بالمدينة العربية من كلّ جانب. وللعلم فقط، فإنّ عشرات الآلاف من العمّال الفلسطينيّين هم من قاموا في الماضي ولا يزالون حتى الآن ببناء هذه المستوطنات، بينما سلطات الفساد الفلسطينية تتمتّع بأموال الدول المانحة، أكانت هذه أموالاً عربية أم أجنبية.

طوال هذه العقود الماضية، كانت فلسطين ورقة رابحة في أيدي أنظمة الاستبداد العربية. فلقد ألهت هذه الأنظمة الشعوب العربية بهذه العظْمة الفلسطينية في الوقت الذي عملت فيه على تجذير الاستبداد والتحكّم بمصائر العباد بغية توريث السلطة من شرّ سلف لشرّ خلف.

حتّى عندما فاجأ الرئيس المصري الراحل أنور السادات العالم مرّتين، الأولى بحرب أكتوبر والثانية بزيارته إسرائيل وخطابه في الكنيست في القدس، ثم عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل القاضية بإعادة سيناء كاملة للسيادة المصرية، لم يُبدّل «ممانعو» ذلك الأوان جلودهم، بل واصلوا التشبّث بالشعارات إيّاها واتهموا السادات بالخيانة وأبعدوا مصر من الجامعة العربية.

لقد أصرّ السادات في ذلك الأوان على عدم تجاهل القضية الفلسطينية، فدار الحديث آنذاك عن حكم ذاتي فلسطيني في المناطق المحتلّة. وللتذكير، لم يكن آنذاك غير بضعة آلاف من المستوطنين في المناطق المحتلة بما فيها القدس. غير أنّ منظمة التحرير بقياداتها الجاهلة موازين القوى الدولية والمسارات التاريخية ذهبت مع «الممانعين» البعثيّين والقذافيين، عراقيين وسوريين وليبيين، وهو الأمر الذي دفع الملك حسين إلى فكّ الارتباط بالضفة الغربية. غير أنّ السياسات المتهوّرة للقيادة الفلسطينية أوصلتها إلى درك أسفل دفعها إلى القبول بفتات أوسلو الذي هو أقلّ بكثير ممّا كان يمكن الحصول عليه في اتفاقات السلام المصرية- الإسرائيلية.

لقد مهّدت اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية الطريق للملك الأردني، الذي فكّ الارتباط بالضفّة من قبل، إلى أن يمضي هو الآخر على خطى مصر، ثمّ منظمة التحرير، لعقد معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل بحثاً عن مصالح مملكته. لو لم تُدفع المملكة الأردنية إلى فكّ الارتباط بين الضفّتين، لما استطاع الأردن إبرام معاهدة سلام من دون إعادة الضفّة والقدس العربية للمملكة، على غرار الاتفاقية المصرية- الإسرائيلية. الممانعون واصلوا إطلاق الشعارات، بينما واصلت إسرائيل بناء المستوطنات وتطويق القدس من كلّ جانب باستيطان كثيف أضحى معه من الصعوبة بمكان إيجاد حلّ سياسي مرضٍ في هذه المدينة المعقّدة دينيّاً وحضاريّاً.

التاريخ لا يتوقّف والعالم يتغيّر. وفي هذا الأوان، كلّ قطر عربيّ مشغول بمصائبه التي لها أوّل وليس لها آخر. كما إنّ القيادات الفلسطينية ليست بمستوى المسؤولية التي تستلزمها هذه المرحلة. لقد بلغ التشرذم مرحلة متقدّمة، وهي مرحلة تستدعي استبدال كلّ القيادات الفلسطينية التي أوصلت الفلسطينيين إلى هذا الحضيض.

لأجل الخروج من هذه المآزق، هنالك حاجة إلى تفعيل الخيال السياسي. الخطوة الأولى لتفعيل هذا الخيال هي بحلّ السلطة الفلسطينية، وإجراء انتخابات لقيادات جديدة تتعامل مع مستجدّات هذه المرحلة. وعلى غرار الوضع الذي ساد في جنوب أفريقيا، فهنالك قيادة فلسطينية تقبع في السجون الإسرائيلية. الخيال السياسي المطلوب الآن هو انتخاب مروان البرغوثي رئيساً لفلسطين، على غرار نيلسون مانديلا، وانتخاب سلام فياض لرئاسة حكومة فلسطينية جديدة ونظيفة الأيدي.

فقط بالخيال السياسي، بنظافة الأيدي ونقاء الضمائر، يمكن التعامل مع العالم ووضعه أمام التحدّيات المستجدّة. لقد اتّشحت الرزنامة العربية والفلسطينية بأيّام الغضب. حريّ بأن يتذكّر الجميع بأنّه في السياسة، أيّام الغضب والإضرابات لا تدفع القضيّة قيد أنملة إلى الأمام.

* كاتب فلسطيني

من جهة أخرى

الحياة

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.