هذيانات أنيقة

0

قادمونَ نحنُ من ذاكرة الانتصارات الصغيرة، نتوهّجُ بِالمعاني الجديدةِ سطوعاً في نشوة الهذيانات الأنيقة. نجيءُ من غور الدروب الطويلة، ونمضي إلى نهاياتٍ مفتوحة، مُشرعة على نهاياتٍ بعيدة. بعيدةٍ كَالسماء الغارقة في زرقةٍ ممتدّدةٍ على فضاءٍ من خيالٍ وميض..

نرتادُ الحياةَ، شغفاً بعد شغف. نتعلّمُ في خطْوها تعثّرات الهزيمة، ونتذوّقُ في وثبتها طموح الإنتصار، ونستبقُ في تعرّجاتها هاوية السقوط. وقد نقعُ هنا، ونرتفعُ هناك، وفي الوقوع نزيحُ عن أقدامنا غبار الأغلال، وفي التحليق نستلهمُ عنفوان الرياح. هذي الحياةُ، تهيمُ بنا فتنةً خلاّقة، ومساربَ عميقة، ونهيمُ بها معراجاً يعانقُ هامة الآمال البارقة في حدقات النجوم..
ونعود ثانيةً في أتون الأسئلة، ننصهرُ انعتاقاً، وَنستجلي ثمالةً صافيّة، ونغرقُ في قمّةٍ عالية. فلا شيءَ يضعنا في ملكوت الغوايات الساطعة، غير ذلك الضوء القادمُ من متاهات الطُرقات الغائِرة في منحنياتها العميقة.  تبعثُ في أعماقنا دفق التخلّقات الناطقة، وبهاء التجلّيات المسكونة بالدهشة والسؤال والتمرّد والتحديق والانسياب..

نَنتشي بِكأسٍ من ماء الحياة، ونلوذُ بِدردشةٍ بعيدة، وثمالةٍ عاشقة، تأخذنا هنا وهناك، نُرممُ بها بعض انكساراتنا الفارهة، وهزائمنا العتيدة، ونُهدي بعضاً من ثمالتنا نخباً طازجاً لانتصاراتنا الصغيرة. ونُمعِنُ في هذا الوجود المتناثرُ فوق هشيم الأمنيات. ونُمعِنُ في الفراغ، ولا شيءَ غير الفراغ يعربدُ في فضاء ذواتنا الهاربة نحو المجاهيل العتيقة. هناكَ حيث البدايات كانت محض أوهامٍ عالقةٍ في الذاكرة، وهناكَ حيث الأسئلة كانت ترتقي مدارج الدهشات، وهناكَ حيث المستحيل، كانَ يسكنُ أعطافنا الواهنة..

تركنا خلفنا في قاع الذكريات شيئاً من هزائمنا وأحزاننا القديمة، وَمضينا إلى غدٍ مترعٍ بالنشوات والرغبات والتنوّعات والشهوات والمسرّات والثمالات والألوان، نستدعي الحياةَ من سفوحها المضيئة. نعشقُ في الذات جنونها الشهي، ونُهيمُ عشقاً بِجنون أشواقنا الفاضحة. نحتسي على دكّة الانتصارات، انكساراتنا الماضية، وأوهامنا الآفلة، وما تبقّى من تعثّراتنا الحاليّة..
نبحثُ في ملامحنا عن آمالنا الضائعة، عن إنسانيّتنا التّائِهة، عن أوقاتنا المهدورة، عن فراغاتنا الهائلة، ولا نجِدنا. وقد نجِدنا في حلمٍ بعيد، أو في مستحيل شهي، أو في بريق فكرةٍ تشّعُ من فوق عتمةٍ مجهولة. يا لهذه الأفكار كم هي فاضحةٌ للطين المترسّبِ في أعماقنا، وكم هيَ متواطئةٌ مع أسئلتنا الحائِرة. إنّها الأفكار تتخلّقُ في هجير العدم، تأتي من بعيد وقريب، من بدايات المنافي المجهولة، ومن نهايات الترحّلات الدائِمة. تأتي حاملةً أوزارها الآثمة، وجنونها المثير، وأضواؤها الكاشفة، وأصواتها الصاخبة، وتحديقاتها الثاقبة..

نعودُ من الضياع، نتقلّدُ زهوَ المسافات الجديدة. وفي هذا الطريق نتلمّسُ أعماقنا الغارقة في سديم الغوايات الآسرة. نَستجلي في هذا الوجود مهارة التوقّفات الهادئة. والوقتُ هامدٌ ولكنّه لا يتوقّف، نَمضي به ببطءٍ شديد، نستطعمُ في ثناياه مذاق التأمّلات الوامضة. والطريقُ يعودُ بنا مجدّداً إلى نقطةِ المتاهات الأولى: وجع الإنسان، ذاكرة الجمال، صخب الآمال، احتشاد الأسئلة، تعدّد الأجوبة، ضجيج الدروب، أقنعة القُبح،  حرائق التفكير، تلوّنات الماء، عبث الوجود، بكاء الطبيعة، مطر القلب، أبجديات اللون، فضاء الأضواء، موت الكلمات، حطام التغيير..

إلى أين ننتهي.؟ فالنهايات محض سراب، ندخُلها ظافرينَ بانتصاراتٍ واهمة، وحماساتٍ طفوليّة متّقدة، ولا نلبثُ إلا أنْ نجدَ أنفسنا أمام وَهمٍ جديد. فالحياةُ تَسعى إلى مبتغاها كلّ مرةٍ في اشتعالٍ متجدّد. نريدُ أن نكتشفَ في قانونها نكهة الموت، وانتهاء الطريق. ولكنّنا نعودُ متعبينَ، نلوذُ بناصية الانتظار، ونغرقُ في صمت الحيرة، تمزّقنا المعاني، ونستفهمُ عن معنى أنْ نحتاجَ إلى أنْ نموت، لكي نعرف إنّنا نحيا من جديد، نحيا في حياةٍ تخرجُ من موتٍ قديم، فمن حاجتنا للحياةِ نمضي إلى موتٍ آخر، وفي هذا الآخر قد ينبتُ زهر الحياة..

لا شيءَ في البدايات البعيدة  سوى ركام الأفكار الشّاحبة، وحُطام التفسيرات السائدة، والألوان المنطفئة، والأردية القاتمة. ولا شيءَ غير التكرار يعاقرُ تكرار الفراغ، والعقول تقتاتُ زادها من مائدةٍ هزيلةٍ شحيحة. كنّا هناكَ نستجمعُ ما يتساقطُ منّا في منحدرات التكرار والتيه والعُتمة والخنوع. أخذنا نستحضرُ ضوءاً من مدارات الأفلاك المنيرة، وتعمّقَ الضوءُ في أذهاننا شيئاً فشيئاً، يقدحُ بالتّفتّحات المضيئة، وامتشقنا جرأةً استوطنت فينا، دفعتنا لِمناصرة التفكير. ودلفنا مغاور الفكرِ هنا وهناك بِهدوءٍ شديد، واكتشفنا بعد هزائمنا الكثيرة بأنّ الجرأة على الاكتشاف سبيلنا للمعرفة، وأنّ شجاعة التفكير والنقد سبيلنا للمعرفة، وأنّ المعرفة شجاعة العقل وجنونه ومجازفاته وحرّياته وتحديقاته وتمرّداته الخلاّقة..

في مرايا الغياب، كم نشتهي حضورنا الجديد، وكم تأسرنا نشوة الذاكرة وهيَ تتراقصُ جذلاً على إيقاع الغد. كان الغدُ دائماً في حساب الذاكرة ميقاتنا الحاضر، نذهبُ إليه من فورنا، من لحظتنا الحاليّة، ونأتي منه جديداً. إنّهُ يعرفنا في أشواقنا التّواقة، ويقرأُ في خطواتنا شغف التواصل، ويحتسي معنا نخب الانتصارات والانكسارات والهذيانات والمسرّات والتّتويجات الآجلة. ولم يعد الأمس في حساب الاشتهاء مذاقاً رائقاً، لأنّهُ يخلو من شهوة الخلق ومن حميميّة الدفء، ولأنّهُ يصبحُ ثقيلاً في تخفّفات الذاكرة الرشيقة..

مُغرمونَ نحنُ، مُغرَمونَ بِالتجلّيات في بروق المعاني الجديدة، فالجديدُ غرام العقل وعشقه في تخلّقاتهِ الساطعة، وفي تجدّداتهِ المستمرّة. إنّه الغرام يبعثُنا أحياءً على قيد التوهّجات والغوايات والاكتشافات. يهيمُ بنا مراحات التأمّلات الفسيحة، ويشعلُ في أعماقنا جذوة الدهشات، ويستنطقُ في أفكارنا جديد المعاني. إنّهُ الغرام، يُلهمنا إيقاع الحياة، فالحياة من غير إيقاع، مقبرة الجمود المُميت. وهوَ الغرامُ ذاته يُطعمنا من شغف التمرّد جنون التفكير، وَيسقينا من نهر العشق ماء الغواية..

كانَ القليلُ من شغف الذات بِالذات كافياً، كافياً لكي يَضعنا في مسار الذات، وفي أعماق توجّساتها وهواجسها، وفي منحنيات تقلّباتها وتناقضاتها، وفي صلبِ أفكارها وأسئلتها وصراخاتها. ربما الشغف لا يكونُ شغفاً إلاّ حينما يُعيدُ للذات كونها الخاص، ومدارها المتفرّد، وتعريفاتها المميزة، ونظراتها الثاقبة، ونشوتها البارقة. إنّه شغفها في أن تكونَ مترامية المعاني، وغزيرة التدفّقات. تتوثّبُ شوقاً في فكرةٍ متوهّجة، وترقصُ انتشاءً في اكتشافٍ جديد، وتكتشفُ أعماقها في طريقٍ متجدّد، وتستأنسُ بِنبرتها الرّنانة في إيقاعات الإبداع، وتغرقُ في لذائِذها المُلهمة، وترتقي في دهشاتها مدارج الغوايات الأثيرة، وتزهو تواضعاً بانتصاراتها في معركة الحريّة..

في خضمّ التغييرات والتغيّرات والتحوّلات، نتحسّسُ طرائق التفكير، وندلفُ متاهة المعاني بأسئلة المتاهات، وفي دروبها المتفرّعة تلك، نحشدُ حواسنا وهيَ تحتدمُ ضجيجاً في مخاض التخلّقات، لِنقتنصَ ومضة الضوء في خطوةٍ بارقة. فبعض الومضات لها رنينٌ فادح الضوءِ يختالُ شهياً في أوردة الفِكر. وبعض الأفكار تحاكي العقولَ بِمفاتن الأنوار، وتبقى هناكَ مُفعمةً بِألق الدهشات، وبِبذخ التلويحات المُشعّة، تستنطقُ وهج التفكير بِدفقات الاحتمالات المُشرعة على نوافذ التجديد. فالأفكار تشتهي الأفكار حينما تَتموّجُ بالحركةِ المُثمرة في حياةٍ وثّابة، تستلهمُ من توهّجات التغيير براعة التخطيّات الجريئة، ومهارة التشويق، ورشاقة الإثارة، وفتنة الخلق، وفصاحة النُطق، وتخمَّر الفكرة، وأناقة الأسلوب، وتنوّع التلوين..

* كاتب كويتي
‏Tloo1996@hotmail.com

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.