لمناسبة وفاته: إعادة نشر خطاب البابا بندكتوس ١٦ الذي أثار ردوداً غوغائية!

0

“إن الله لا يُسَرُّ بالدماء، وإن السلوك غير العقلاني يناقض طبيعة الله”

الإمبراطور كان مطّلعاً على السورة 2-256 التي جاء فيها: “لا إكراه في الدين”

 

ترجمة بيار عقل

 

 إضافة في ١٢ سبتمبر ٢٠١٦:  (نشر “الشفاف” االترجمة التالية قبل ١٠ سنوات، في ١٧ سبتمبر ٢٠٠٦. ونعيد نشرها “لمناسبة مرور ١٠ سنوات” كما يُقال، ولكن أيضاً لأن موضوع “العنف الديني” ما زال موضوع الساعة أكثر مما كان حتى في العام ٢٠٠٦.)

* كلمة إعتذار في ١٧ سبتمبر ٢٠٠٦: تأخّر “الشفّاف” عدة أيام في نشر القسم الثاني من خطاب البابا بندكتوس السادس عشر. ولا بدّ من التنويه بأننا، ببساطة، لم نتوقّع أن يحظى هذا النصّ الفلسفي الصعب بمثل هذا الإقبال الواسع جداً، الذي ربما ضاعف عدد قرّاء “الشفّاف”. إمتناننا يذهب إلى القارئ العربي الذي أثبت أنه يطلب أكثر مما تقدمه “جريدة إلكترونية” أو “فتوى تلفزيونية” غاضبة. ونخص الصديق قاسم بلال الذي اتصل “ليطمئن” على مصير القسم الثاني من الترجمة.

 

(حينما اندلعت تظاهرات “الرسوم المسيئة للنبي” تردّدنا، في هذا الموقع، في نشر رسوم النبي الموجودة في متحف القاهرة ومتاحف أخرى- خشية أن يحرّض بعض المشايخ على إحراق متحف القاهرة. الآن، بدأت مظاهرات إستنكار خطاب البابا، ومطالبته بالإعتذار. ويكفي أن يشاهد المرء مذيعي فضائية “الجزيرة”- فضائية “الإخوان المسلمين” وأمير قطر- لكي يشاهد عمليات التعبئة والشحن الغوغائي تحت غطاء “الدفاع عن الإسلام”. من قرأ خطاب البابا؟ نحن نشكّ في أن يكون الشيخ القرضاوي قد قرأ الخطاب. ونشكّ في أن يكون مذيعو “الجزيرة” قد قرأوه. لذلك قرّرنا أن نترجم الخطاب، ترجمة حرفية، على الأقل لكي نعرف ما هي “المشكلة” التي تسبّبت حتى الآن باعتداءات على كنائس في الضفّة الغربية والعراق، والتي سينجم عنها سقوط قتلى وجرحى حتماً.. بهمّة الشيخ القرضاوي و”الإخوان”.

المجال مفتوح على “الشفّاف” لانتقاد خطاب البابا، أو لتأييده والدفاع عنه. لكن.. إقرأوا الخطاب أولاً.

 

خطاب البابا بندكتوس 16 بالإنكليزية.

*

regensburg-690x450 

السيدات والسادة المحترمين

إنها لتجربة مؤثرة بالنسبة لي أن ألقي محاضرة من منبر هذه الجامعة، مرة أخرى. أعود بذاكرتي إلى تلك السنوات.. التي بدأت فيها بالتعليم في جامعة بون. كان ذلك في العام 1959، وكانت الجامعة تضم أساتذة عاديين. لم تكن كراسي الأستاذية تستفيد من خدمات مساعدين وسكرتاريا، ولكن كان هنالك بالمقابل الكثير من الإتصال المباشر مع الطلاب، وخصوصاً في ما بين الأساتذة أنفسهم. وكنا نجتمع، قبل الدروس وبعدهم، في الغرف المخصصة للهيئة التعليمية. وكانت تجري حوارات مفعمة بالحيوية بين المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللغة، وكذلك، وهذا أمر طبيعي، بين كليّتي اللاهوت اللتين تضمّهما هذه الجامعة. وفي كل فصل كان هنالك ما يسمّى باللاتينية   «dies academicus »، يتحدث فيها أساتذة من جميع الكليات أمام طلاب الجامعة كلها، الأمر الذي كان يتيح تجربة حقيقية لـ”الجامعية” (univeritas).  رغم تخصّصاتنا المختلفة التي كانت أحياناً تجعل التواصل في ما بيننا أمراً صعباً، فإننا كنا نشكّل كلأ واحداً، وأننا كنا جميعاً نعمل في جميع الميادين على أساس عقلانية واحدة تتّسم بأوجه مختلفة، وأننا كنا نتقاسم المسؤولية عن الإستخدام السليم للعقل- إن هذه الحقيقة أصبحت تجربة مُعاشة. كما كانت هذه الجامعة فخورة بكليّتي اللاهوت اللتين تضمّهما جدرانها. وكان واضحاً أن هاتين الكلّيتين، عبر التساؤلات اللتين تطرحانها حول معقولية الإيمان، كانتا بدورهما تقومان بعمل يشكل بالضرورة جزءاً من “كل” ما يسمى “العلم الجامعي” universitas scientiarum، وذلك مع أن الجميع لم يكن يشارك في ذلك الإيمان الديني الذي يسعى علماء اللاهوت المسيحي لبلورة علاقته بالعقل عموماً. ولم يكن هذا الإحساس العميق بالإنسجام ضمن عالم العقل يتعرّض للإضطراب حتى حينما أشار أحدهم إلى أنه كان هنالك شيء غريب حول جامعتنا: فهي كانت تضمّ كليّتين مخصّصتين لشيء لا وجود له: وهو الله. وقد ظل مقبولاً بدون جدال، على مستوى الجامعة كلها، أنه حتى بإزاء مثل الشك الجذري (في وجود الله)، فقد ظل ضرورياً ومعقولا ًأن نطرح موضوع الله عبر استخدام العقل، وأن نفعل ذلك في إطار الإيمان المسيحي.

 

لقد تذكّرت ذلك كله مؤخراً، حينما قرأت الكتاب الذي نشره البروفسور تيودور خوري (في “مونستر”) لقسم من جدال دار- على الأرجح في العام 1391 في الثكنات الشتوية قرب أنقرة- بين الإمبراطور البيزنطي العلامة مانويل الثاني باليولوغوس وفارسي مثقف حول موضوع المسيحية والإسلام، وحقيقة كل من هذين الإيمانين. والأرجح أن الإمبراطور نفسه كان هو من حرّر هذا الحوار، أثناء حصار القسطنطينية الذي دام من العام 1394 إلى العام 1402؛ وذلك في السبب في أن حجج الإمبراطور ترد بتفصيل يزيد على تفصيل إجابات الفارسي المثقّف. ويتطرق الحوار إلى مختلف نواحي بُنى الإيمان في الإنجيل والقرآن، ويتطرق بصورة خاصة إلى صورة الله والإنسان، مع العودة مراراً ومراراً إلى موضوع العلاقة بين “القوانين الثلاثة”: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن. وأرغب في محاضرتي هذه  أن أتطرّق إلى نقطة واحدة- وهذه النقطة كانت هامشية تقريباً في الحوار الذي أشرت إليه- أعتبرها، في إطار مسألة “الإيمان والعقل”، جديرة بالإهتمام ويمكن أن تشكل نقطة إنطلاق لتامّلاتنا حول هذه القضية.

 

في النقاش- السجال السابع ، الذي نشره البروفسور خوري، يتطرّق الإمبراطور إلى مقولة “الجهاد”. ولا بدّ أن الإمبراطور كان مطّلعاً على السورة 2-256 التي جاء فيها: “لا إكراه في الدين”. وهذه السورة وردت في الفترة الأولى (يقصد “المكّية”) حينما لم يكن محمدا يملك أية سلطة بل وكان عرضة للتهديد.ولكن الإمبراطور كان بالطبع مطلعاً على التعليمات التي طُوِّرّت لاحقاً وتم تدوينها في القرآن، التي تتعلق بالجهاد. وبدون التطرّق إلى التفاصيل، على غرار الفَرق في معاملة “أهل الكتاب” و”الكفّار”، فإنه يطرح على محاوره بصورة لا تخلو من الحدة السؤال المركزي حول العلاقة بين الدين والعنف عموماً، وبالكلمات التالية: “قل لي ما هو الجديد الذي أتى به محمد، إنك لن تجد سوى أشياء شريرة ولاإنسانية، مثل الأمر بنشر الإيمان الذي بشّر به بحدّ السيف”.  ويستطرد الإمبراطور ليشرح بالتفصيل الأسباب التي تجعل نشر الإيمان بالعنف أمراً غير معقول. وفي نظره أن العنف لا يتوافق مع طبيعة الله ومع طبيعة الروح. “إن الله لا يُسَرُّ بالدماء، وإن السلوك غير العقلاني يناقض طبيعة الله. الإيمان يولد من الروح، وليس من الجسد. أن على من يرغب في جذب إنسانٍ إلى الإيمان أن يكون متحدّثاً جيّداً، وأن يملك القدرة على المحاججة المنطقية، بدون عنف وبدون تهديدات.. لإقناع روحٍ عاقلة، لا يحتاج المرء إلى ذراع قوي، أو إلى أسلحة من أي نوع، أو لأي شكلٍ من أشكال التهديد بالقتل….”.

 

إن الخلاصة الحاسمة في هذه المحاججة ضد الإكراه لتغيير الدين هي ما يلي: إن الفعل بصورة مجافية للعقل يناقض طبيعة الله. ويسجّل الناشر، تيودور خوري، الملاحظة التالية: بالنسبة للإمبراطور، الذي كان بيزنطياً تربّى ضمن الفلسفة اليونانية، فإن هذه الخلاصة بديهية. أما في التعليم الإسلامي، فإن الله فوق البشر (transcendent) بصورة مطلقة. وإرادة الله ليست مقيّدة بأيٍّ من مقولاتنا، بما فيها مقولة العقل. ويستشهد خوري بعمل العالم الفرنسي المتخصّص بالإسلام، ر. أرنالديز  (R. Arnaldez) الذي يذكر أن إبن حزم وصل إلى درجة القول أن الله ليس مقيّداً حتى بكلماته ذاتها، وأن شيئاً لا يلزمه بأن يكشف الحقيقة لنا. ولو شاء الله، فسيكون علينا حتى أن نعبد الأصنام.

 

في ما يتعلق بفهم الله، وبالتالي في ما يتعلق بالممارسة العملية للدين، فإننا نجد أنفسنا اليوم إزاء وضع مثير للحيرة يشكّل تحدّياً مباشراً لنا. فهل يمثّلالإعتقاد بأن القيام بفعل غير معقول هو أمر مناقض لطبيعة الله مجرّدَ فكرة يونانية، أم أن هذا الإعتقاد صحيح دائماً وبحد ذاته؟ أعتقد أننا، هنا، نلمسالإنسجام العميق بين ما هو “يوناني” (= إغريقي) بأفضل معاني الكلمة، والفهم الإنجيلي للإيمان بالله. لقد عدّل القديس يوحنا البيت الأول من كتاب “سفر التكوين”، وبدأ تقديم إنجيله بالكلمات التالية: “في البدء كانت الكلمة“(logos) . وتلك هي نفس الكلمة التي استخدمها الإمبراطور: الله يعمل بموجبالـlogos. والحال، فإن logos تعني العقل وتعني الكلمة معاً: العقل القادر على التعبير عن نفسه، تحديداً بصفته عقلاً. وبناءً عليه، فقد قال القديس يوحنا الكلمة الأخيرة في المفهوم الإنجيلي لله، وفي كلمته هذه تجد الخيوط المتعرّجة والمجهدة للإيمان الإنجيلي ختامها وتوليفها. يقول يوحنا الإنجيلي: “في البدء كانت “الكلمة”، و”الكلمة” هي الله. إن اللقاء بين رسالة الإنجيل والفكر اليوناني لم يأتِ من الصدفة المحضة. إن رؤيا القديس بولس، الذي رأى طرقات آسيا مقفلة وشاهد في المنام رجلاً مقدونياً يتوسّل إليه: “تعال إلى مقدونيا وساعدنا” (أعمال الرسل16: 6-10)- إن هذه الرؤية يمكن تأويلها كـ”خلاصة” للضرورة، التي لا تحتاج إلى برهان، للتقارب بين الإيمان الإنجيلي والبحث الفلسفي اليوناني.

 

والواقع أن هذا التقارب كان جارياً منذ حقبات بعيدة. إن الطبيعة الغامضة “لله” التي ظهرت عبر العليقة المحترقة، هذا الإسم (“الله”) الذي يميّز “الله” عن جميع الآلهة الأخرى بتسمياتها المتنوعة والذي يعلن ببساطة أنه هو هو، إن ذلك يمثّل بحد ذاته تحدّياً لفكرة الأسطورة، ويمكن مقارنته بصورة وثيقة مع مساعي سقراط للتغلّب على فكرة الإسطورة والتسامي عنها. وفي العهد القديم، وصل المسار الذي بدأ في العلّيقة المحترقة إلى مرحلة نضج جديدة في فصل “الهجرة”، حينما تم الإعلان عن أن إله إسرائيل- إسرائيل التي بات محرومة من أرضها ومن عبادتها- هو إله السماوات والأرض ووُصِفَ في صيغة بسيطة تحاكي كلمات العلّيقة المحترقة: “أنا هو”.  ويترافق هذا الفهم الجديد لله مع نوع من التنوير، يتعارض بصورة حادة مع خدع الآلهة الوثنية التي كانت مجرد تعبير عن أعمال البشر (cf. Ps 115). وهكذا، رغم النزاع المرير مع الحكام الإغريقيين الذين سعوا لتوفيقه بصورة قسرية مع عادات اليونان وعباداتهم الوثنية، فإن الإيمان الإنجيلي، في الفترة الإغريقية، تلاقى مع أفضل ما في الفكر الإغريقي على مستوى عميق، مما نجم عنه إثراء متبادل نجد أفضل تعبير عنه في أدب الحكمة اللاحق. ونحن ندرك الآن أن الترجمة اليونانية للعهد القديم التي تمّت في الإسكندرية- التي تسمى Septuagintهي أكثر من مجرد ترجمة “بسيطة” (“بسيطة”، أي أقل من مرضية) للنص العبري: إنها، بالأحرى، شاهد نصّي مستقل وخطوة مميزة ومهمة في تاريخ الوحي، خطوة حقّقت هذا التلاقي على نحوٍ كان حاسماً في ولادة المسيحية، وفي انتشارها. إن ما حصل، هنا، هو لقاء عميق بين الإيمان والعقل، لقاء بين التنوير الحقيقي والدين. ومن قلب الإيمان المسيحي، وكذلك من قلب الفكر اليوناني بعد اعتناقه الإيمان، كان بوسع الإمبراطور مانويل الثاني أن يقول: إن عدم العمل بموجب “العقل” (logos) يتعارض مع طبيعة الله.

 

بكل صدق، ينبغي على المرء أننا نجد في اللاهوتالمسيحي في أواخر القرون الوسطى إتجاهات لإحداث تباعد في هذا التوليف بين الروح الإغريقية والروح المسيحية. وعلى نقيض ما يسمى النزعة المثقفة لأوغسطين وتوما، نشأت مع (الفيلسوف والفقيه) “دانز سكوتس” Duns Scotus نزعة إرادوية نجم عنها في النهاية الزعم بأننا لا يمكن أن نعرف سوى “إرادة الله العادية” (Voluntas ordinata) . وما يتجاوز ذلك يدخل في نطاق حرية الله، التي يمكن له بموجبها أن يفعل نقيض كل ما فعله حتى الآن. ونجمت عن ذلك مواقف تقترب بوضوح من مواقف إبن حزم ويمكن لها حتى أن تعطي إنطباعاً بأن الله متقلب المزاج، وغير مرتبط بالحقيقة والطيبة. وتم تعظيم تسامي الله وفرادته إلى حد أن تصوّرنا لما هو حق وخيّر لم يعد يشكل مرأة حقيقية لله، الذي تظل إمكانية الأكثر عمقاً بعيدة عن إكتناهنا إلى الأبد ومخبّاة خلف قراراته الحقيقية. ومقابل هذا التصوّر، كانت الكنيسة قد أصرّت دائماً على أن هنالك بين الله وبيننا، أي بين روحهالخالقة الأزلية وعقلنا المخلوق مقابلة حقيقية، يظل فيها عدم التشابه أكبر إلى درجة غير محدودة من التشابه، ولكن ليس إلى درجة إبطال المقابلة ولغتها (cf.Lateran IV). إن الله لا يصبح أكثر ألوهةً حينما ندفعه بعيداً عنا عبر إرادوية محضة لا يمكن لنا اكتناهها. بالأحرى، فالله السماوي حقّاً هو الله الذي ظهر لنا عبر “الكلمة”، وبصفته “كلمة” فقد تصرّف دائماً وما يزال يتصرّف بحب تجاهنت. حقّاً أن الحب يسمو على المعرفة، وهو قادر بالتالي على إدراك ما يتجاوز الفكر وحده (cf. Eph 3 :19)؛ ومع ذلك، فإنه يظل حب الله، الذي هو “كلمة”. بناء عليه، فالعبادة المسيحية هي عبادة “روحانية” تنسجم مع الكلمة الأزلية ومع عقلنا (Rom 12 :1).

 

إن هذا التقارب الداخلي بين الإيمان الإنجيلي والتساؤل الفلسفي اليوناني كان حدثاً بالغ الأهمية ليس من زاوية تاريخ الأديان فحسب، بل ومن وجهة نظر تاريخ العالم- إنه حدث يظل يعنينا حتى اليوم. ونظراً لهذا التقارب، فليس مدهشاً أن المسيحية، رغم أصولها ورغم بعض التطورات ذات المغزى في الشرق، بلورت طابعها التاريخي الحاسم في أوروبا. ويمكن لنا أن نعبّر عما سبق بطريقة مقلوبة: إن هذا التقارب، مع إضافة التراث الروماني، خلق أوروبا وهويظلأساس ما يمكن أن نطلق عليه إسم أوروبا.

 

لقد تعرّضت مقولة أن التراث الإغريقي المطهّر نقدياً يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من التراث المسيحي للمعارضة عبر الدعوة إلى نزع الطابع الإغريقي عن المسيحية- وقد سيطرت هذه الدعوة، بصورة متزايدة، على النقاشات الفقهية منذ بداية العصر الحديث. وإذا ما تمعّننا فيها عن كثب، يمكن ملاحظة ثلاثة أطوار في عملية إلغاء الطابع الإغريقي هذه: ومع أن هذه الأطوار مترابطة في ما بينها، فإنها متمايزة بوضوح من زاوية مبرّراتها وأهدافها.

 

برزت الدعوة إلى تطهير المسيحية من إغريقيتها، أولاً، بالصلة مع المسلّمات الأساسية لحركة “الإصلاح” (المقصود “البروتستانتي”) في القرن السادس عشر. وإذ نظروا إلى  تراث اللاهوت”السكولاستي”*، اعتبر “المصلحون” أنهم بإزاء نظام إيمان قامت الفلسفة بتكييفه بصورة شاملة، أن أن تمفصل الإيمان كان يستند إلى نظام فكري غريب عنه. وبناءً عليه، بدا لهم أن الإيمان لم يعد يظهر كـ”كلمة” تاريخية حية، وإنما كعنصر من عناصر نظام فلسفي طاغٍ. منجهة أخرى، فإن مبدأ Sola Scriptura كان يبحث عن الإيمان في شكله الصافي، والأساسي، أي كما وُجِدَ أساساً في “الكلمة” الإنجيلية. وبدا (لهؤلاء “المصلحين”) أن الماورائيات هي مقدمة منطقية تُشتق من مصدر آخر، ينبغي تحرير الإيمان منه لكي يعود الإيمان إلى تحقيق ذاته بصورة كلية. وحينما أعلن “كانط” أنه كان بحاجة لأن يضع  التفكير جانباً لكي يوسّع حيّز الإيمان، فإن كلامه كان يعني دفع هذا البرنامج إلى أبعد بكثير مما كان يمكن لـ”المصلحين” أن يتوقّعوه. وبناء عليه، فقد أرسى “كانط” الإيمان في العقل العملي بصورة حصرية، وحرم عليه إمكانية بلوغ الحقيقة الإجمالية.

 

 

 

القسم الثاني (من الترجمة العربية):

 

كان اللاهوت الليبرالي في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين بداية طور جديد في مسار تجريد المسيحية من طابعها الإغريقي. وكان “أدولف فونهارناك” Adolf von Harnack أبرز ممثلي هذا التوجّه. حينما كنت طالباً، وفي أولى مراحل تعليمي، كان هذا البرنامج بالغ التأثير في اللاهوت الكاثوليكي كذلك. وكان ينطلق من تمييز “باسكال” بين “الله الفلاسفة” و”الله إبراهيم، وإسحق ويعقوب”. وقد حاولت أن أتطرّق إلى هذه المسألة في خطابي الإفتتاحيفي بون في العام 1959. ولن أكرّر الآن ما قلته في تلك المناسبة، ولكن سأكتفي بوصف موجز لما كان جديداً في طور نزع الطابع الإغريقي هذا. كانت فكرة “هارناك” المركزية هي العودة إلى المسيح الإنسان وطبيعته البسيطة، الموجودة تحت قشور اللاهوت بل وتحت الطابع الإغريقي. واعتُبِرَت هذه الرسالة البسيطة ذروة التطوّر الديني للإنسانية. وقيلَ أن المسيح وضع حداً للعبادة وأحل الأخلاق محلّها. وفي النهاية، بات المسيح يُصَوَّر وكأنه أب الرسالة الأخلاقية الإنسانية. وكان الهدف الأساسي من ذلك هو تحقيق الإنسجام بين المسيحية والعقل الحديث، أي تحريرها مما اعتُبِرَ عناصر فلسفية ولاهوتية، مثل الإيمان بألوهية المسيح والثالوث الأقدس. بهذا المعنى، فإن التأويل التاريخي النقدي للعهد الجديد أعاد إلى اللاهوت مكانته في الجامعة: فاللاهوت، بنظر “هارناك” تاريخي أساساً، وبالتالي فإنه علمي محض. وما يمكن للاهوت أن يقوله بصورة نقدية حول يسوع هو تعبير عن الفكر العملي، وبناءً عليه يمكن أن يجد مكانه المناسب في الجامعة. خلف هذا التفكير، يكمن التحديد الذاتي الحديث للعقل، الذي عبّر عنه “كانط” بصورة كلاسيكية في “نقدياته” (Critiques)  ، ولكن، في الوقت نفسه، بعد تجذيره بفعل تأثير العلوم الطبيعية. وإذا أردنا الإيجاز، فإن هذا المفهوم الحديث للمنطق يقوم على توليف بينالأفلاطونية (الديكارتية) و”التجريبية” (empiricism)، وهذا التوليف يستند إلى نجاحات التكنولوجيا. ومن جهة، فهو يفترض مسبقاً التركيب الرياضي للمادة، أي عقلانيتها الذاتية، الأمر الذي يتيح لنا أن نفهم كيفية عمل المادة، وأن نستخدمها بكفاءة: ويمكننا القول بأن هذه المقدّمة المنطقية تمثّل العنصرالأفلاطوني في الفهم الحديث للطبيعة. ومن جهة أخرى، هنالك إستعداد الطبيعة للإستغلال خدمةً لأغراضنا، وفي هذا الإطار فالإختبار وحده يسمح بالتحقّق من صحة الفرضيات أو خطأها. وتبعاً للظروف، يمكن أن ينتقل الثقل من أحد القطبين إلى الآخر. إن مفكّراً “وضعياً” (positivist) جداً مثل ج. مونو(J. Monod)  قد اعتبر نفسه أفلاطونياً/ديكارتياً.

 

إن ما سبق يقود إلى مبدأين حاسمين بالنسبة للقضية التي نحن بصددها. أولا، وحده اليقين الناجم عن تداخل العناصر الرياضية والتجريبية يمكن أن يُعتَبَر علمياً. وكل ما يزعم لنفسه صفة العلم ينبغي أن يُقاس بموجب هذا المعيار. وذلك هو السبب في أن العلوم الإنسانية، مثل التاريخ، وعلم النفس، وعلمالإجتماع، والفلسفة، تسعى للتوافق مع معيار العلمية. والنقطة الثانية، ذات الأهمية لتأملاتنا هذه، هي أن هذه الطريقة، بحكم طبيعتها نفسها، تستبعد مسألة الله، وتجعلها تبدو كمسألة غير علمية أو سابقة على العلم. بناءً عليه، فإننا نجد أنفسنا بإزاء تصغيرٍ لشُعاع العلم والعقل، وهذه مسألة قابلة للنقاش.

 

سنعود إلى هذا الموضوع لاحقا. في هذه الأثناء، تجدر ملاحظة أنه من وجهة النظر هذه فإن محاولات اللاهوت لإضفاء طابع “علمي” على نفسه تجعله ينحسر إلى مجرّد جزء صغير من ذاته السابقة. لكن، ينبغي أن نمضي إلى أبعد من ذلك: أن الإنسان نفسه هو الذي يتعرّض للإختزال، لأن الإسئلة الإنسانية تحديداً حول أصلنا ومصيرنا، أي الأسئلة التي يطرحها الدين وعلم الأخلاق، ستفقد في هذه الحالة مكانها ضمن حدود العقل الجماعي كما يعرّفه العلم، ويغدو لا مفرّ من نفيها إلى عالم “الذاتي” (subjective). في هذه الحالة، يقرّر الشخص، بناءً على تجاربه الشخصية، ما يعتبره معقولاً في المسائل الدينية، ويغدو “الضمير” الذاتي الحَكَم الوحيد في ما يمكن إعتباره أخلاقياً. وعلى هذا النحو، يفقد علم الأخلاق، والدين، قدرتهما على تشكيل “جماعة” (community) يتحوّلان إلى موضوع شخصي بحت. يمثّل ذلك وضعاً خطراً على الإنسانية، كما نرى من العوارض المرَضية المثيرة للقلق التي تنتاب الدين والعقل بالضرورة حينما ينحسر العقل إلى درجة أن لا يعود معنيّاً بأمور الدين وعلم الأخلاق. وببساطة، فكل محاولات بناء علم أخلاقي إنطلاقاً من قواعد التطوّر أو من علم النفس وعلم الإجتماع، تنتهي إلى حصيلة غير مناسبة.

 

قبل أن أصل إلى الخلاصة المقصودة من كل هذه المقدّمات، سأتناول بإيجاز الطور الثالث في عملية تجريد المسيحية من طابعها الإغريقي، وهي المرحلة التي نعيشها حالياً. في ضوء تجربتنا (الحالية) مع التعدّدية الثقافية، غالباً ما نسمع دعوات إلى اعتبار التوليف مع الإغريقية الذي تحقّق في عهد الكنيسة الأولى مجرّد عملية تلاقح بدائي لا ينبغي اعتبارها ملزمة للثقافات الأخرى. ويٌُقال أن هذه الثقافات الأخرى تتمتّع بالحق في العودة إلى الرسالة البسيطة التي حملها العهد الجديد قبل أن تحصل عملية التلاقح هذه، بُغية القيام بعملية تلاقح جديدة في البيئة الخاصة بهذه الثقافات الأخرى. هذه المقولة ليستخاطئة فحسب، بل إنها  خشنة وبعيدة عن الدقّة. فـ”العهد الجديد” كُتِبَ باليونانية ويحمل طابع الروح الإغريقية، التي كانت بلغت درجة النضوج مع تطوّر العهد القديم. حقاً أن هنالك عناصر في بدايات تطوّر الكنيسة لا ينبغي إدماجها في الثقافات الأخرى. ولكن القرارات الأساسية في ما يتعلق بالعلاقة بين الإيمان وبين استخدام العقل الإنساني كجزء من الإيمان نفسه، تمثّل تطوّرات متناغمة مع طبيعة الإيمان نفسها.

 

وهنا أصل إلى الخاتمة التي سعيت إليها في هذه المحاضرة. إن هذه المحاولة، بخطوط عريضة، لنقد العقل الحديث من داخله لا تمتّ بصلة إلى أي مسعى لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل “عصر الأنوار” أو لنبذ المعارف التي وفّرها لنا العصر الحديث. ينبغي الإقرار بالجوانب الإيجابية للحداثة بدون تحفّظ: وجميعنا نشعر بالإمتنان للإمكانات الرائعة التي انفتحت أمام الإنسانية وللتقدّم في الإنسانية الذي أعطي لنا. علاوة على أن الروح اعملية تمثّل إرادةالإلتزام بالحقيقة، مما يعني أنها تجسّد منحى يعكس واحدة من أبرز سمات المسيحية. إن قصدنا هنا ليس التقوقع أو النقد السلبي، وإنما توسيع مفهومنا للعقل ولاستخدامه. فمقابل اغتباطنا بالإمكانات الجديدة المفتوحة للإنسانية، فإننا نلحظ كذلك الأخطار الناجمة عن هذه الإمكانات نفسها، ويتوجّب علينا أن نسائل أنفسنا حول كيفية التغلّب عليها. لن ننجح في تحقيق ذلك إلا إذا تضافر العقل والإيمان بطريقة جديدة، وإذا ما تغلّبنا على التحديد الذاتي للعقل لكي يقتصر على ما هو تجريبي وقابل للإختبار، وإذا ما كشفنا، من جديد، الآفاق الشاسعة للعقل. بهذا المعنى، يصح القول أن اللاهوت ينتمي إلى الجامعة ويندرج ضمن الحوار الواسع النطاق للعلوم، ليس كمجرّد علم تاريخي أو كواحد من العلوم الإنسانية، بل- تحديداً- بصفته لاهوتا، أي بحثاً في عقلانية الإيمان.

 

على هذا النحو، فحسب، نصبح قادرين على القيام بحوار الحضارات وحوار الأديان الذي تمسّ الحاجة إليه اليوم. في العالم الغربي، يسود إعتقاد بأن العقل الوضعي وحده، والفلسفة التي تستند إليه، يصحّان على مستوى العالم. يصلحان في جميع الأمكنة والأزمنة بدون استثناء. ولكن الثقافات ذات الطابع الديني العميق ترى في هذا الإستبعاد للمقدّس من شمولية العقل هجوماً على معتقداتها الأكثر عمقاً. إن عقلاً يعجز عن الإنصات للمقدّس ويحيل الدين إلى مجرّد شبه ثقافة، هو عقل عاجز عن الدخول في حوار الثقافات. في الوقت نفسه، كما حاولت أن أبيّن، فالعقل العلمي الحديث بعنصره الأفلاطوني، يحمل ضمنياً سؤالاً يشير إلى أبعد من ذاته وإلى ما يتجاوز إمكانات منهجيّته. وببساطة، فإن على العقل العلمي الحديث أن يقبل- كمُعطى ينبغي أن تستند منهجيّته إليه- بالتركيب العقلاني للمادة وبالتناسب بين روحنا وبين البنى العقلانية للطبيعة. إن السؤال حول السبب في وجوب القبول بما سبق يظل سؤالاً حقيقياً، سؤالاً ينبغي على العلوم الطبيعية أن تحيله إلى إنماط ومجالات تفكير أخرى- أي، إلى الفلسفة واللاهوت تحديداً. فبالنسبة للفلسفة، وكذلك ولو بطريقة مختلفة، بالنسبة للاهوت، فإن الإنصات إلى التجارب والمعارف العظيمة للتراثات الدينية للإنسانية، وللإيمان المسيحي بصورة خاصة، يمثل مصدراً للمعرفة لا ينجم عن تجاهله سوى الحدّ بصورة غير مقبولة من قدرتنا على الإنصات وعلى الإستجابة. هنا أتذكّر ما قاله سقراط لـ”فايدو”. فبعد أن طرحت الكثير من الآراء الفلسفية الخاطئة في محادثاتهما الأولى، قال سقراط: “سيكون مفهوماً جداً إذا ما انزعج البعض من كل هذه الأفكار الخاطئة إلى حد يدفعه، طوال حياته، لاحتقار أي حديث عن الوجود، وللسخرية منه- ولكن مثل هذا الموقف سيحرمه من (معرفة) حقيقة الوجود، وسيكبّده خسارة فادحة”. لقد تعرّض الغرب طويلا للخطر بسبب هذا النفور من الخوض في المسائل التي تقوم عليها عقلانيته، وهو يمكن أن يتعرَّض لخطر عظيم من هذا النفور اليوم. إن شجاعة الخوض في العقل بكل اتساعه، عوضاً عن نفي عظمته- ذلك هو البرنامج الذي يمكن للاهوت المؤسًّس على الإيمان الإنجيلي أن يقتحم بهنقاشات عصرنا. “إن عدم العمل بموجب “العقل” (logos) يتعارض مع طبيعة الله”، كما قال مانويل الثاني، وفقاً لفهم مسيحي لله، رداً على محاوره الفارسي.إلى هذا “العقل” العظيم، إلى سعة العقل هذه، ندعو شركاءنا في حوار الثقافات. إن إعادة اكتشافه باستمرار هو المهمة العظيمة للجامعة.

 

* حسب قاموس “المورد” فإن “السكولاستية: الفلسفة النصرانية السائدة في القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة، وقد بُنِيَت على منطق أرسطو ومفهومه لما وراء الطبيعة ولكنها اتسمت في أوروبا الغربية خاصة، بإخضاع الفلسفة للاهوت ومن أبرز رجالها توما الأكويني الذي حاول أن يقيم صلة عقلانية بين العقل والدين

إقرأ أيضاً:

On anniversary, can we finally catch Benedict’s point at Regensburg?

0

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.