لماذا يجب على الفلسطينيين دعم “التطبيع” مع إسرائيل؟

0

مقابلة مع ناشط السلام البروفسور محمد الدجاني الداودي

تنامت حركة مناهضة التطبيع، بصفتها حركة مقاومة لاعنفية للاحتلال الإسرائيلي، في أعقاب انتفاضة الأقصى عام 2000. وتعارض التنظيمات المتطرفة على غرار «حماس» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» أي شكل من أشكال الحوار والتفاعل مع الإسرائيليين. ولكن في حين تستهدف حركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (“بي دي أس”) إسرائيل والإسرائيليين، تستهدف حركة مناهضة التطبيع الفلسطينيين الآخرين أيضاً. ومؤخراً، تزايد التطبيع العربي الرسمي، من خلال استضافة إسرائيل للوفد السعودي واستضافة قطر للوفد الرياضي الإسرائيلي وإرسال وفود تجارية إسرائيلية إلى الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب.

ما هو تعريفك للـ “تطبيع” وما هو رأيك بهذه المسألة؟

لا أعلم ما إذا كان هناك تعريف موحد للـ “تطبيع”. فقد عرّفت حركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” الفلسطينية في مؤتمرها الأول “التطبيع” على النحو الآتي: “المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط محلي أو دولي مصمم خصيصاً لجمع (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) الفلسطينيين (و/أو العرب) والإسرائيليين، سواء أكانوا أفراداً أو مؤسسات. ولا يهدف ذلك صراحةً إلى كشف نوايا الاحتلال ومقاومته وكافة أشكال التمييز والظلم بحق الشعب الفلسطيني”.

من ناحية أخرى، تعرّف وثيقة صادرة عن مركز العمل التنموي “معاً” في رام الله “التطبيع” كما يلي: “المشاريع التي لا تقر حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف بموجب القانون الدولي ومقتضيات العدالة؛ المشاريع التي تفترض مسؤولية متساوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين عن النزاع أو التي تزعم أن السلام يتحقق من خلال الحوار والتفاهم والتعاون المتنامي بين الطرفين، من دون تحقيق العدالة؛ المشاريع التي تعتّم على وضع الشعب الفلسطيني كضحية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي؛ المشاريع التي ترفض أو تتجاهل أو تحجم حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير وحق العودة والتعويض وفقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194؛ المشاريع المدعومة من قِبل أو القائمة على شراكة مع مؤسسات إسرائيلية لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني الشرعية، أو المشاريع المدعومة أو الممولة (كلياً أو جزئياً) من قبل الحكومة الإسرائيلية مثل المهرجانات السينمائية ومعارض تكنولوجيا المعلومات، إلخ”.

ولكن عندما رافقتُ طلاباً فلسطينيين إلى أوشفيتز لتعريفهم على المحرقة، اعتُبر ذلك “تطبيعاً” وتمت إدانته على أنه خيانة. إن المبادئ الأساسية الثلاثة لحملة حركة مناهضة التطبيع هي: إنهاء الاحتلال وتأمين حقوق متساوية للإسرائيليين والفلسطينيين ومنح حق العودة الكامل للّاجئين الفلسطينيين.

هل ترى أي عيب في المنطق الذي تنتهجه حملة مناهضة التطبيع؟

بصورة أساسية، تعجز الحملة عن رؤية أهمية تأييد القضية الفلسطينية من قبل الداخل الإسرائيلي وأن التطبيع يشكل خطوة أساسية في عملية إنهاء النزاع. لتحقيق ذلك، لا بد من أن يجلس الإسرائيليون والفلسطينيون معاً على طاولة المفاوضات ويتوصلوا، بكل حسن نية، إلى تنازلات مؤلمة تحظى بموافقة الطرفين. ولن يتحقق ذلك إلا إذا أيّد الرأي العام الإسرائيلي قضية السلام، غير أن دعم حملة مناهضة التطبيع يجعل من هذا السيناريو أقل ترجيحاً، إن لم نقل مستحيلاً.

ما هي علاقتك بحملة مناهضة التطبيع؟

لا تجمعني أي علاقة بالقائمين على حملة مناهضة التطبيع سوى وصفهم لي بالـ “خائن”، كوني لا أشاطرهم آراءهم المعارضة لأي نوع من التعاون والمشاريع المشتركة مع إسرائيل. نحن نحترم آراءهم ولكنهم لا يحترمون آراءنا.

ما رأيك بحملة مناهضة التطبيع؟ هل هي شرعية؟

صحيح أنني لا أؤيد هذه الحملة، إلا أنني أحترم حق القيّمين عليها بامتلاك آراء مختلفة. ولكن هذه الحملة تتعارض مع “اتفاقات أوسلو” لعام 1993، التي دعت إلى إنهاء التحريض وشجعت عملية التطبيع. ويطالب ناشطو الحملة بقطع كافة قنوات الاتصال بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بالرغم من أنهم يعون أن ذلك غير عملي ولا واقعي. فمناهضة التطبيع تقوّض عملية السلام وتعيق إمكانية المصالحة وحل النزاع.

هل تُعتبر حملة مناهضة التطبيع استراتيجية مقاومة لاعنفية بالفعل؟

تتبنى حملة مناهضة التطبيع في فلسطين تكتيكات عنيفة لإسكات الأصوات المعتدلة. فمن خلال التهديدات والعنف، يعرقل الناشطون المناهضون للتطبيع نشاط المنظمات والأفراد الذين يعملون على مشاريع لبناء السلام. على سبيل المثال، عندما اصطحبتُ 27 طالباً فلسطينياً إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا لأعرّفهم على المحرقة في آذار/مارس 2014، قام العمال والموظفون ورابطة المعلمين في جامعة القدس بتعليق عضويتي نهائياً. كما أصدرت تسع منظمات طلابية سياسية تابعة للجامعة بياناً علنياً ضدي تحت عنوان “التطبيع = خيانة”. وتظاهر الطلاب ضدي في حرم الجامعة ووجهوا رسالة إلى مساعدي يهددون فيها بقتلي إذا عاودت التعليم في الجامعة. ولاحقاً، عمدوا إلى إحراق سيارتي.

وبرز مثال آخر في حزيران/يونيو 2016 عندما دخل أعضاء من المنظمة اليسارية الإسرائيلية “دولتان- وطن واحد”[1] إلى رام الله خلال شهر رمضان لكي يشاركوا في إفطار مع زملائهم الفلسطينيين، ولكن تم رشقهم بالحجارة وإحراق سيارتهم.[2] وتهدف هذه التكتيكات الترهيبية إلى تعطيل المصالحة على مستوى الأشخاص وإضعاف المجتمع المدني الفلسطيني والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية.

كيف تؤثر حملة مناهضة التطبيع برأيك على الإسرائيليين والفلسطينيين؟ وما هي عواقب تلك الحركة؟

من الجانب الإسرائيلي، من غير المرجح أن تؤدي مقاطعة إسرائيل على الصعيد الأكاديمي والثقافي والتجاري إلى إنهاء الاحتلال، بل تزيد اليمين الإسرائيلي قساوةً وتصلباً وتقوي المتطرفين في إسرائيل. وفي الواقع، تستغل الحكومة الإسرائيلية حملة مناهضة التطبيع للادعاء بعدم وجود شريك من الجانب الفلسطيني.

أما من الجانب الفلسطيني فتشكل مناهضة التطبيع نوعاً من “التنفيس”، من خلال تفريغ مشاعر الغضب والإحباط التي تراود الشعب الفلسطيني نتيجة الاحتلال الإسرائيلي الهمجي. وبما أن الفلسطينيين يعتمدون بشدة على إسرائيل لتأمين معيشتهم اليومية، فهم لا يستطيعون استبدال المنتجات الإسرائيلية المقاطعة بمنتجات فلسطينية. وبالتالي، ينتهي بهم الأمر بشراء المواد الخام من إسرائيل بكلفة أعلى، بما أن السلطة الفلسطينية لا تستطيع استيراد الموارد الإنسانية من دون موافقة إسرائيل.

من يدفع ثمن قرار المشاركة في الحوار؟

في نهاية المطاف، إن ضحايا الاحتلال الغاشم هم من يعانون الأمرّين، باعتبار أن المحتل الذي يتمتع بالقوة المتفوقة والدعم الدولي يمكنه الإبقاء على الوضع الراهن وبالتالي على الاحتلال.

ما هو برأيك السبب الذي قد يدفع شخصاً للتظاهر ضد المنظمات غير الحكومية والجمعيات التي تروّج لالتقاء الفلسطينيين والإسرائيليين؟

يعود السبب الرئيسي إلى الأحزاب السياسية التي تتنافس على السلطة، مثل «حماس» و«فتح»، والتي تضعف دور منظمات المجتمع المدني لكي تبقي سيطرتها على الأجندة السياسية. كما تسعى هذه الأحزاب جاهدةً لكي تكون الممثل الوحيد والحصري للشعب الفلسطيني الذي يتوجه إليه الإسرائيليون والأسرة الدولية والذي يتلقى تمويلاً من قبل المانحين.

هل يحتّم التطبيع استبدال عبارة “جدار الفصل العنصري” بـ “السياج الأمني” أو عبارة “الاحتلال” بـ “سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية”؟

لا أرى أي شئ خطأ في أن نتصرف بلباقة واحترام مع بعضنا البعض وفي الوقت نفسه نكون صريحين مع بعضنا البعض. فالتطبيع لا يحرمني حقي في المطالبة بحقوقي ولا يمنعني من إدانة الظلم المرتكب من قبل دولة إسرائيل بحق الفلسطينيين.

هل أنت مستعد للمشاركة في حوار مع المجموعات أو الأفراد الإسرائيليين اليمينيين الذين يؤيدون الإبقاء على الاحتلال وبناء المستوطنات؟

نعم لأن هذه هي بالتحديد الفئة التي يجب التحاور معها من أجل تغيير الوضع أو التوصل إلى تفاهم.

ما رأيك بالشاعر الفلسطيني ريمي كانازي الذي كتب في شعره المعنون “طبِّع هذا” ما يلي:

“كلا، لا أريد تطبيع العلاقات معك.

لا أريد معانقتك أو احتساء القهوة معك أو التحاور معك أو تقاسم الخبز معك أو الجلوس معك حول نار مخيم أو تناول حلوى الـ “سمورز” معك أو التحدث بمشاعر فياضة عن أوجه الشبه في ما بيننا.

لا أريد تقاسم المسرح معك أو مشاركتك كتابة قصيدة أو الإعجاب بمختاراتك الأدبية أو التحدث عن دور الفن، عوضاً عن العدالة، في شق طريق أفضل”.

ريمي شاعر والشعراء يستخدمون المشاعر والعواطف بدلاً من المنطق. فعندما يقول: “كلا، لا أريد تطبيع العلاقات معك”، من يقصد بضمير المخاطب: الطبيب اليهودي الذي يعالج المرضى الفلسطينيين والأستاذ الإسرائيلي الذي يعلّم الطلاب الفلسطينيين؟ أو الجندي الإسرائيلي الذي يهدم منازل الفلسطينيين والسياسي الإسرائيلي الذي ينكر حقوق الفلسطينيين ووجودهم؟ هذا ما أقصده بالقول أنه ينبغي علينا التمييز بين الخير والشر.

كيف يمكن برأيك إنهاء الاحتلال إن لم يكن من خلال استخدام العنف والمقاطعة ومناهضة التطبيع؟

من خلال القضاء على النفوذ المتطرف لدى الجانبين، وبالتالي خلق بيئة مبنية على الثقة من شأنها إحلال حقبة جديدة من المصالحة والسلام عبر تسوية سلمية يتم التفاوض عليها. ويبدأ ذلك بالاعتراف بالآخر واحترامه، وليس نزع الشرعية عنه وعزله وشيطنته. ففي حيت تفترض مناهضة التطبيع عدم الاتفاق مع الآخر، سيدفعنا إنهاء الاحتلال إلى الاتفاق معه في نهاية المطاف. وبالتالي، يمكن أن يحرز الفلسطينيون مكاسب عديدة من خلال أخذ زمام المبادرة لناحية دعم “حملة التطبيع”.

إذا كنت تعتقد أن حملة مناهضة التطبيع تعيق التقدم لجهة دعم العيش المشترك وإرساء السلام، ماذا تفعل لمجابهة ذلك؟

أعتقد أن العاملين في المنظمات المؤيدة للتطبيع التي تأسست على إثر “اتفاقية أوسلو” عام 1993، مثل “الوسطية” و”يلا” و”صوت واحد” و”بذور السلام” و”تحالف السلام” و”منتدى العائلات الثكلى” و”مقاتلون من أجل السلام” و”زيت زيتون بلا حدود” و”إيكوبيس”، هي الحركات الثورية الفعلية. فهي تجمع الإسرائيليين والفلسطينيين ضمن المدرسة أو الأنشطة الزراعية أو برامج التقنية المتقدمة والمناصرة أو المخيمات. وعبر تشجيع كافة أشكال التفاعل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تعمل هذه المنظمات على بناء جسور التفاهم بين الفلسطينيين والإسرائيليين دعماً لقضايا الاعتدال والمصالحة والسلام والعيش المشترك.

وبالتالي، تستوجب مصالح الفلسطينيين، بدلاً من حملة مناهضة التطبيع، تنفيذ حملة مباشرة واستراتيجية لإشراك الإسرائيليين وإثارة إعجاب الرأي العام الإسرائيلي. فمن دون التعاون والتواصل والتطبيع، من المستحيل تحقيق السلام، وهذا هو بالتحديد هدفنا.

[1] البروفسور محمد الدجاني الداودي هو باحث وناشط سلام من مواليد القدس حائز على شهادتي دكتوراه (من جامعة تكساس، أوستن (1984) وجامعة ساوث كارولينا، كولومبيا (1981). وقد أسس حركة “الوسطية” الإسلامية المعتدلة في فلسطين عام 2007 دعماً للاعتدال والمصالحة والسلام والتسامح والعدالة. وهو مؤسس ومدير معهد الوسطية الأكاديمي. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع “منتدى فكرة”.

[2] “دولتان- وطن واحد” هي حركة تنادي بكونفدرالية ذات طابع أوروبي بين إسرائيل ودولة فلسطين المستقبلية، ما يسمح للمواطنين من طرفي النزاع بالسكن في أي من الدولتين مع الاحتفاظ بجنسيتهم الأصلية.

“منتدى فكرة”

 

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.