سوريا بين المنطقين السوفياتي والروسي

0

لم ينته الاتحاد السوفياتي، كنظام ومجموعة جمهوريات، الّا بعدما اغرق الشرق الاوسط في كلّ أنواع الازمات الناجمة عن بحث دائم عن موطئ قدم فيه. لم يكن يوما سوى بائع أسلحة. واذا كان يمكن الحديث عن انجاز يتمثل في بناء السدّ العالي، فانّ هذا الإنجاز مرتبط بالمنافسة مع الغرب والسعي الى إقامة وجود دائم في مصر ليس الّا وذلك من منطلق امبريالي بحت.

لا يوجد سبب واحد يدفع الى الاعتقاد ان نظام فلاديمير بوتين في روسيا الحديثة سيكون افضل من النظام السوفياتي. على العكس من ذلك، يرتكب بوتين كلّ الأخطاء التي ارتكبها القادة السوفيات رافضا التعلّم من تجارب الماضي متكلا فقط على ذلك الشعور الوطني العميق المترسّخ لدى المواطن الروسي الذي يظنّ ان بلده ولد ليكون دولة عظمى. يتجاهل هذا المواطن الروسي الذي يسير خلف بوتين ان بلده لا يملك أي مقومات تؤهله ليكون قوة عظمى. ولأنه لا يملك أي من هذه المقومات، باستثناء السلاح النووي والسلاح التقليدي، نجد بوتين في عملية هروب مستمرة الى امام، خصوصا الى خارج الأراضي الروسية. ليس التدخل الروسي في سوريا والمشاركة في الحرب على الشعب السوري بالتفاهم مع ايران والتنسيق مع إسرائيل، سوى فصل من فصول عملية الهروب الى امام، أي الى الحائط المسدود الذي لن يتأخر في الظهور في وجه الرئيس الروسي والسياسات التي يمارسها.

لعب الكرملين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي دورا كبيرا في إيصال المنطقة الى ما وصلت اليه اليوم وذلك عن طريق الدعم الذي قدّمه دائما الى الانظمة العسكرية، بما في ذلك النظام السوري. كان الوجود السوفياتي في روسيا أسوأ بكثير من أي استعمار، خصوصا انّه ساهم في الوصول الى هزيمة 1967 التي جعلت سوريا تعتمد على الدعم السوفياتي اكثر من ايّ وقت.

من يعود قليلا الى خلف يستطيع ان يتذكّر كيف ورّطت “سورياـ البعث”، قبل ان تصير “سوريا ـ الأسد”، جمال عبد الناصر في الهزيمة التي ادّت الى احتلال إسرائيل للجولان وسيناء والضفة الغربية منذ نحو نصف قرن. احتلت إسرائيل أراض سورية ذات اهمّية استراتيجية وما لبثت ان ضمّتها اليها، كما احتلت الضفة الغربية والقدس الشرقية وكل صحراء سيناء، بما في ذلك قطاع غزّة الذي كان تحت الإدارة المصرية.

لم تبذل موسكو في مرحلة ما قبل 1967 أي جهد من اجل افهام قادة مصر وسوريا وقتذاك ان موازين القوى لا تسمح بالانجرار الى حرب مع إسرائيل وانّ من الأفضل التريث والامتناع عن تصديق الشعارات الفارغة التي كانت تخرج من اكثر من عاصمة او مدينة عربية. لم يساعد الاتحاد السوفياتي سوريا يوما في استعادة الجولان، اللهمّ الّا اذا كان يمكن اعتبار حرب تشرين الاوّل ـ أكتوبر 1973 حربا حقيقية وليس مناورة اضفت شرعية ما على نظام حافظ الأسد الاقلّوي الطامح دائما وابدا الى لعب دور على الصعيد الإقليمي عن طريق الإرهاب والابتزاز. لم تكن استعادة الجولان هدفا للنظام السوري في يوم من الأيّام، بمقدار ما انّه كان مطلوبا التظاهر بالرغبة في التفاوض مع إسرائيل من اجل تحقيق مآرب أخرى، خصوصا في لبنان.

لا يزال السؤال الملحّ الذي يطرح نفسه بكل قوّة لماذا لم تستطع موسكو لعب دور إيجابي في الشرق الاوسط في يوم من الايّام؟

قبل كلّ شيء، ليس لدى روسيا، تماما كما كانت عليه الحال مع الاتحاد السوفياتي، نموذج يصلح اتباعه في أي مكان من العالم. روسيا في وضع داخلي لا تحسد عليه وعلى فلاديمير بوتين البحث في كلّ وقت عن عدوّ خارجي من اجل تبرير جمعه لكلّ السلطات في يده والتغطية على المعاناة اليومية للمواطن الروسي. هناك نجاح واحد لبوتين جعله قادرا على التحدث مع الولايات المتحدة من الندّ للندّ. هذا النجاح تحقّق في سوريا ولكن على حساب عشرات آلاف السوريين الذين قتلوا بالسلاح الروسي. قضى السوريون ودمّرت مدنهم وبلداتهم وقراهم واجبروا على الهجرة من ارضهم. لعب السلاح الروسي، الذي يأتي بشكل قصف جوي او براميل متفجرة يستخدمها النظام او سلاح فردي وقذائف تلجأ اليها الميليشيات المذهبية المدعومة من ايران، الدور المطلوب منه. صار في امكان بوتين القول امام مواطنيه انّه أعاد روسيا الى الموقع الذي تستحقه على خريطة العالم. ولكن ماذا بعد ذلك؟

لعلّ افضل ما يشرح الوضع الروسي، إضافة الى كتاب غاري كاسباروف الذي عنوانه “الشتاء آت”، حديث ادلت به ماري مندراس الباحثة في الشأن الروسي الى صحيفة “لوموند” قبل ايّام قليلة. يساعد هذا الحديث في فهم الأسباب التي تدفع الى القول ان روسيا تتجه الى طريق مسدود.

قالت الباحثة:” بعد سقوط جدار برلين في خريف العام 1989  وانهيار الاتحاد السوفياتي، تغيرت الأطر (الجغرافية) كليا. تمددت المجموعة الاوروبية ـ الأطلسية في اتجاه الشرق. لم تعد في مواجهتها سوى دولة واحدة هي روسيا. لا تمتلك روسيا حليفا صلبا واحدا. علاقة روسيا بكازاخستان، مثلا، لا علاقة لها  بالشراكة الفرنسية ـ الألمانية او الحلف الأطلسي. ان القوة العظمى السابقة، تبقى قوة عسكرية ونووية، لكنها صارت دولة من الحجم المتوسط، دولة تعاني من تراجع عدد السكان، دولة اقتصادها اقل بقليل من حجم الاقتصاد الايطالي. المجتمع فيها في حال ضياع وهو يعد نفسه لمزيد من الفقر والانطواء على الذات”.

تضيف الباحثة التي تتابع الوضع الروسي بدقة ان فلاديمير بوتين “يجمع في شخصه كل السلطات ويمتلك السلاح النووي، لكنّه يضعف بلده وشعبه. لا مفرّ امام روسيا من مواجهة مرحلة الافول، خصوصا ان بوتين لم يستطع تنفيذ سياساته. لم يستطع السيطرة على الجمهوريات السوفياتية السابقة وإقامة شراكة مع الولايات المتحدة وإقامة علاقة تجارية مع اوروبا وجلب استثمارات منها. لذلك، يشعر النظام اكثر فاكثر بانّه مطوق، وهو مستعد لكل أنواع عمليات الهروب الى امام. لم يعد الرئيس الروسي يقبل أي اعتراض، حتّى من المنتمين الى الحلقة المحيطة به. هذا يعني انه يستطيع اتخاذ كل القرارات بنفسه، أي ارتكاب أخطاء”.

خلاصة الامر ان لا تفسير للقصف الروسي لحلب والإصرار على تدمير المدينة. ماذا بعد تدمير حلب؟ كيف يمكن استغلال ذلك سياسيا؟ هل ستركض الولايات المتحدة واوروبا الاقامة شراكة تجارية مع دولة مثل روسيا يعتمد كلّ شيء فيها على أسعار النفط والغاز؟

كان هناك منطق يحرّك السياسة السوفياتية تجاه سوريا. كلّما ضعفت سوريا، كلما صارت تحت رحمة الاتحاد السوفياتي. اين المنطق في السياسة التي يتبعها بوتين. هل تكفي السيطرة على الساحل السوري ومنع وصول الغاز الخليجي وغير الخليجي اليه لتصديره الى أوروبا لتكون هناك ورقة روسية يمكن ان تستخدم في مكان ما؟ انّه بالفعل سؤال محيّر لا تفسير له سوى ان بوتين مثله مثل بشّار الأسد لا يدرك ان نظامه انتهى وانّ ليس بقتل السوريين يمكن ان تكتب حياة جديدة لنظامه الذي صار عمره سبعة عشر عاما!    

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.