الانكشاف السوري وتجلياته المستمرة

0

كانت ثلاثة عقود من حياة السوريين، من بداية ثمانينيات القرن الماضي حتى بداية العقد الثاني من القرن الحالي على وجه التقريب، فترةً من الاستنقاع السياسي والاجتماعي، بما في ذلك الخوف من ممارسة السياسة، باستثناء “آيات” التمجيد والتصفيق والهتاف.

تنقسم هذه الفترة بدورها إلى مرحلتين: العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وعنوانها الرئيس هو “ثقافة” الرعب، والعقد الأول من القرن الحالي، حيث كان التخبُّط في القرارات وإعادة هيكلة النخب المقربة من السلطة لأساليب سيطرتها، وإدارة الأموال المنهوبة وتبييضها في شراكات واستثمارات داخلية، بعد أن راكمتها طوال المرحلة السابقة؛ ما أوسع -على نحوٍ غير مسبوق- الهوّةَ بين أغلبية مُفقرة وأقلية متخمة.

في هذه الأثناء، عمل منع التعبير الصريح عن الرأي، على تشويه بنية العلاقات الاجتماعية والشخصية، وذلك في ظلّ عبادة الفرد والقمع، وتجبّر الأجهزة الأمنية، وحصانة محتليّ المناصب الحكومية المفروضين بقوة داعميهم، كموالين منافقين مستعدين للانصياع وتنفيذ الأوامر بلا اعتراض، حفاظًا على مراكزهم التي يحصلون بوساطتها على المكاسب من منظومة الفساد العاملة في الظل؛ ما يجعلهم يعيشون في مستوى لا توفره لهم مرتباتهم المتواضعة. لم يقتصر ذلك على المؤسسات الحكومية، وانسحب أيضًا على كامل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية الخاصة؛ بسبب الشراكة شبه الملزمة؛ ما شكّل نمطًا اقتصاديًا – اجتماعيًا سوريًا فريدًا.

لذا، يمكن القول إن المجتمع السوري غرق في الفساد والاستزلام والخوف والخضوع والنفاق، وإذا علمنا أن جيلين اثنين على الأقل قد عبرا في خضمَ هذه العلاقات؛ فمن الممكن توقع مدى انعكاس أسلوب العيش هذا على نفسية الناس وعلاقاتهم البينية؛ ذلك أن لقاء ذاتٍ مشوهة بذاتٍ مشوهة أخرى لن ينتج عنه سوى المزيد من التزييف والنفاق، وغنيٌّ عن القول أن إقامة علاقات شخصية، لا يقيدها الخوف والخضوع، تعدّ مقدمة في غاية الأهمية لبناء شراكات ومؤسسات اجتماعية سليمة، تحت سقف القانون.

بينما لم يتغير شيء يذكر، في ما يتعلق بتعامل مؤسسات النظام الإعلامية والأمنية مع الشعب/ الرعية، وما زالت الشوائب تطفو على السطح وتعيث في المجتمع فسادًا؛ لم تكن العلاقات الشخصية والاجتماعية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام قادرة على تجاوز مفاعيل الاستبداد وثقافة الماضي بهذه السرعة، وبما يتلاءم مع مفهوم الحرية المطروح من قبل الثورة بقوة، والذي ما لبث أن واجه العديد من المصاعب المرتبطة بتاريخ مديد من التقاليد والأعراف غير المتماشية مع التفسيرات المعاصرة لهذه القيمة العظيمة: الحرية. فكان من الصعب أن تنمو العلاقات الجديدة القائمة على مفاهيم الحرية في بيئة غير مناسبة؛ ما أدّى إلى استمرار نمط العلاقات الاستبدادي للمرحلة السابقة، بهذه الدرجة أو تلك، مضافًا إليه الحضور المتعاظم للاستبداد الديني.

كان للكبت السياسي، المعاش في المرحلة السابقة، تمظهر اجتماعي يكاد يسم حياة بعض السوريين ونخبهم، ويتمثل بالانفلات من المعايير الأخلاقية والاجتماعية لآداب الحوار، واستبدال الخلاف حول الكثير من الأمور بتبادل الشتائم والشماتة وغيرها من صنوف الإذلال المتبادل؛ ما يعكس المدى الذي وصل إليه الصدع الاجتماعي والنفسي. يلاحظ ذلك بنسبة أكبر بين السوريين القاطنين في الخارج منذ مدة طويلة، وفي بلدان اللجوء حاليًا، حيث تتوافر مساحة أكبر للتعبير عن الرأي السياسي المكبوت في الداخل. في هذه الحالة، غالبًا ما يتم التعبير عن الرأي بصورة مضطربة وانفجارية فور الخروج من البلد، وذلك قبل أن تستقر الحال على درجة معينة.

بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى التي شهدت انتفاضات “الربيع العربي”، نجد أن الحالة السورية المشار إليها أعلاه هي الأفدح والأكثر مأسويةً، وليس الأمر غريبًا بالطبع، إذ يعكس ذلك مستوى القمع وإخفاء التناقضات والانقسامات الاجتماعية لمدة طويلة، فضلًا عن “سرطنة” المجتمع بالفساد وتغييب القانون. أفضى ذلك كله بعد عام 2011 إلى صعوبة الوصول إلى توافقات وطنية أساسية، واستفراد الأطراف الخارجية برسم السياسات المتعلقة ببلدنا وتقاسم النفوذ لأمد يبدو بأنه سيطول.

هذا لا يعني أن الاستقطاب الحالي في المواقف بات ينسحب على كامل المجتمع وعلاقاته، فهو، أساسًا، واجهة سياسية وتعبوية تحتاج إليها الأطراف المتصارعة، ولا بد أن يضعف تأثيره مع حلول الهدوء على الجبهات؛ ما يفسح المجال لظهور تجليات سياسية جديدة، تعكس آراء الكثير من السوريين غير المستقطبين في هذه الصراعات، وربما يتنامى دور هؤلاء في سيرورة الأحداث مستقبلًا، ولو في ظل التحكّم الخارجي بالأرض والقوى السورية على حدّ سواء. وقد يشكلون البيئة المناسبة لانبثاق قوى سياسية جديدة ملائمة لمرحلة يسودها السلام وإعادة الإعمار والتنمية. نشير هنا إلى أن استمرار الوصاية الدولية الحالية، المستترة والسافرة، يتناسب عكسًا مع تنامي وعي السوريين ووصولهم إلى صيغة سياسية ملائمة تستند إلى مفهوم المواطنة، وتقيم علاقات متوازنة مع المحيط الإقليمي المضطرب.

في الواقع، يحتاج الأمر إلى المزيد من التجارب الفاشلة، على مستوى العمل الجماعي والمؤسساتي في سورية الجديدة التي لم تتضح ملامحها بعد؛ بغية تجاوز حالة الفساد والإفساد وهيمنة النزعة الفردية في عمل المؤسسات الاجتماعية. النزعة الفردية لدى السوريين ليست جديدة وتحتاج إلى بحث مستقل، وقد عبّر عنها الرئيس شكري القوتلي عندما تنازل عن الرئاسة لصالح الرئيس جمال عبد الناصر، في بداية الوحدة المصرية-السورية، ومما قاله على نحوٍ مختصر، أن “كل سوري يعتبر نفسه سياسيًا، وواحد من اثنين.. قائدًا وطنيًا، وواحد من أربعة.. نبيًا، وواحد من عشرة يعتبر نفسه من الآلهة!”.

كما أن ثمة حاجة ماسة إلى دراسة الواقع الاجتماعي والسياسي في سورية أكاديميًا؛ من أجل وضع أسس متينة لبناءٍ قادر على الصمود في المستقبل، مع أخذ تجارب البلدان الأخرى بعين الاعتبار. بهذا الخصوص، يكفي إلقاء نظرة واحدة على الكوريتين؛ ليتّضح ما يمكن أن يفعله نظام سياسي اجتماعي محدّد، من تسريع (كوريا الجنوبية) أو إبطاء (كوريا الشمالية)، لحركة التاريخ وتطور المجتمعات. كما لا بد من الانفلات من قيود العلاقات القديمة المعيقة لتطور مجتمعاتنا؛ بغية الدخول في عصر الحضارة، ليس كمستهلكين فقط، إنما كمشاركين في إنتاجها في كافة نواحي الحياة.

منير شحود، أستاذ جامعي سابق، وناشط سياسي مستقل

جيرون

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.