إرهاب المحاكم في سوريا: محكمة الإرهاب، محكمة الميدان العسكرية، المحاكم والهيئات الشرعية

0

                                                     الأعداد التقريبية للموقوفين منذ بداية الاحتجاجات عام 2011 تجاوز 300,000 معتقل 

بحث مقدم من المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

أولا محكمة الإرهاب

أًنشئت “محكمة الإرهاب”، المشكلة بالمرسوم رقم 22 لعام 2012،على أنقاض “محكمة أمن الدولة العليا” التي نشأت بموجب المرسوم رقم 47 لعام 1968 كمحكمة استثنائية بديلة عن “المحكمة العسكرية الاستثنائية” التي سبق أن شكلها المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بآذار عام 1963 بالمرسوم رقم 6 لعام 1966. وألغيت “محكمة أمن الدولة” بالمرسوم رقم 53 لعام 2012، كما رُفِعت حالة الطوارئ، “المرتكز القانوني لمحكمة أمن الدولة”، بالمرسوم رقم (161) لعام 2012. ,وصدر “قانون مكافحة الإرهاب” بالمرسوم رقم 19 لعام 2012 على غرار “قانون مناهضة أهداف الثورة”، الصادر برقم بالمرسوم رقم 6 لعام 1964. والتي جاءت جميعها لحماية السلطة القائمة ومحاربة معارضيها. وكما اختصت محكمة أمن الدولة العليا بالجرائم المنصوص عنها بقانون مناهضة أهداف ثورة الثامن من آذار 1963 وعرقلة تطبيق التشريعات الاشتراكية الذي صدر بالمرسوم رقم 6 لعام 1964 والجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي, كذلك حدد القانون اختصاص محكمة الإرهاب بجرائم الإرهاب وبكافة الجرائم التي تحال إليها من النيابة العامة, ونجد تشابها شديدا بقوانين محكمة الإرهاب وقانون مكافحة الإرهاب مع محكمة أمن الدولة العليا وقانون مناهضة أهداف الثورة. فمحكمة أمن الدولة العليا وقانون مناهضة أهداف الثورة المذكور آنفا أتيا في مرحلة حرجة  للسلطة الانقلابية لتدعيم وترسيخ نفوذها وسلطتها وقمع معرضيها. وقانون مكافحة الإرهاب وقانون محكمة الإرهاب صدرا في مرحلة مماثلة شهدت فيه السلطة السورية جهودا لزعزعة سلطتها وتهديدا لسيطرتها المطلقة  على الدولة والمجتمع في سوريا، ولم يأتيا في معرض حماية الدولة.  ففي الحالتين كان التهديد موجها للسلطة وليس للدولة. وكما جاءت محكمة أمن الدولة وقانون مناهضة أهداف الثورة وعرقلة تطبيق التشريعات الاشتراكية في خضم فورة عاطفية قومية واشتراكية في سوريا والمحيط ومحاولة السلطة كسب تأييد الدول الاشتراكية والعربية للتغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، جاءت محكمة الإرهاب وقانون مكافحة الإرهاب في خضم فورة عالمية لمحاربة الإرهاب ومحاولة لكسب تأييد العالم للسلطة السورية وضمها للجهود الدولية بذلك، متغاضين كذلك عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان.

وحاولت السلطة أن تتجاوز الانتقادات التي كانت توجه لـ”محكمة أمن الدولة” السابقة بكونها محكمة استثنائية فجهدت لدمجها مع النظام القضائي السوري شكليا ولكنها أبقت على جوهرية الاستثناء في تكوينها. فقد أبقت على مركزية تشكيلها وحصرها بدمشق، وأبقت على صلاحية الرئاسة بتعيين القضاة في المحكمة متجاوزة “قانون السلطة القضائية” الذي يعطي لـ”مجلس القضاء الأعلى” حق تسمية القضاة في المحاكم وتنقلاتهم. فحسب نص المادة 2، الفقرة 1، من قانون إحداثها، “المحكمة مشكلة من 3 قضاة كل منهم بمرتبة مستشار رئيس وعضوين احدهما عسكري وتتم تسميتهم بمرسوم بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى”.

وجاء في الفقرة ب من المادة (2) بان “قاضي التحقيق يسمى بمرسوم بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى”.

وقضت الفقرة ج من المادة (2) “بان يُمثِّل الحق العام لدى المحكمة نيابة عامة خاصة بها يسمى رئيسها واعضاؤها بمرسوم بناء على اقتراح مجلس القضاء الأعلى”.

،ومع إلغاء منصب “الحاكم العرفي” المخول بتصديق أحكام محكمة أمن الدولة العليا برفع حالة الطوارئ استُحدِثَت غرفة خاصة لمحكمة الإرهاب مع احتفاظ رئيس الجمهورية (الحاكم العرفي بلبوس جديد) بحق تشكيلها بمرسوم، بتجاوز إضافي لصلاحيات مجلس القضاء الأعلى حسب المادة (5). فقضت بأن”تخضع الأحكام الصادرة عن المحكمة للطعن أمام دائرة خاصة تشكل بمرسوم في محكمة النقض”.

وحيث أن المراسيم تصدر عن رئيس الجمهورية مما يعني أن تسمية جميع قضاة المحكمة ونيابتها .ومحكمة النقض بيد رئيس الجمهورية حصرا، وهو الوحيد المسؤول عن أعمالهم

وكما ألغى قانون محكمة أمن الدولة “غرفة الإحالة” كمرجع لقرارات قاضي التحقيق. كذلك ألغى قانون محكمة الإرهاب “غرفة الإحالة”، حيث نصت الفقرة ب من المادة (2) بان “قاضي التحقيق يخول إضافة إلى صلاحياته بصلاحيات قاضي الإحالة التي تنص عليها القوانين النافذة”.

ولم تكتفِ السلطة بهذه الاستثناءات، بل أضافت إليها تحريرَ المحكمة من التقيد بالأصول والاجراءات حيث قضت المادة (7) انه “مع الاحتفاظ بحق الدفاع لا تتقيد المحكمة بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع ادوار واجراءات الملاحقة والمحاكمة”. متشابهة بذلك مع محكمة الميدان العسكرية.

كما أضافت استثناءً آخر بحرمان المتهَم المحاكم غيابيا من حق سقوط الحكم الغيابي عند إلقاء القبض عليه حسب نصوص القانون العام. فاعتبرت الحكم الصادر غيابيا  نهائياً وغير قابل للسقوط عند إلقاء القبض على المتَهَم ما لم يسلم نفسه طوعا للمحكمة. فنصت المادة (6) بأنه “لا تخضع الأحكام الغيابية الصادرة عن المحكمة، بموجب، لإعادة المحاكمة في حال إلقاء القبض على المحكوم عليه الا إذا كان قد سلم نفسه”.

وعلى غرار “قانون مناهضة أهداف الثورة”، جاء “قانون مكافحة الإرهاب” يحمل تعابير فضفاضة وغامضة يمكن تفسيرها بطرق مختلفة، وأضاف ثلاث جرائم جديدة لم ترد سابقا بأي قانون ومخالفة بشكل فاضح لمبادئ العدالة، وهي “استخدام وسائل التواصل الالكتروني” حسب نص المادة /8/ : “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من قام بتوزيع المطبوعات أو المعلومات المخزّنة مهما كان شكلها بقصد الترويج لوسائل الإرهاب أو الأعمال الإرهابية وتنزل العقوبة نفسها بكل من أدار أو استعمل موقعا الكترونيا لهذا الغرض”.

كما أضاف لعدم التبليغ بنص المادة /10/ “يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات كل سوري أو أجنبي مقيم في سورية علم بإحدى الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون ولم يخبر السلطة عنها”.

كما عاقب القانون على النوايا وجريمة “التفكير بالقيام بالعمل دون ضرورة وجود أفعال مادية تؤيد ذلك فنصت المادة /2/ :  “المؤامرة التي تهدف إلى ارتكاب أي جناية من الجنايات المنصوص عليها في هذا القانون يعاقب عليها بالأشغال الشاقة المؤقتة”.

كما لم يميز القانون بين الحدث والبالغ وبين المدني والعسكري، فشمل الجميع. وهناك أطفال لم تتجاوز .أعمارهم السادسة عشر متهمون أمام محكمة الإرهاب

ومثل أمام المحكمة عشرات الآلاف تتراوح تهمهم بين حمل السلاح والقيام بعمليات إرهابية إلى استخدام وسائل التواصل للتعبير عن الرأي والنشاط السلمي كالتظاهر وتقديم الإغاثة للمهجرين والمحاصرين وتقديم المعونة الطبية للجرحى والمصابين ودعم المنكوبين بأرزاقهم وبيوتهم. فهناك متهمون بحمل ربطات خبز للمناطق المحاصرة، وهناك نساء متهمات بطبخ الطعام لأولادهن من المقاتلين، وهناك نساء وأطفال تصل أعمارهم لعدة أشهر فقط لانتساب أحد أفراد أسرتهم للمقاتلين. هذا بالإضافة لمئات الأطباء والصيادلة المتهمين بتقديم اسعافات وأدوية للمصابين وألاف النشطاء السلميين والصحافيين والناشطين على مواقع الانترنت لمجرد قيامهم بتوثيق الانتهاكات التي تحصل، ومئات النشطاء الحقوقيين والمحامين.

ثانيا المحاكم الميدانية العسكرية

أنشئت “محاكم الميدان العسكرية” بموجب المرسوم رقم 109 لعام 1968 واختصت بتولي النظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمرتكبة زمن الحرب أو خلال العمليات الحربية التي يقرر وزير الدفاع إحالتها إليها حسب نص المادة الثانية من المرسوم.

وتؤلَّف المحكمة بقرار من وزير الدفاع من رئيس وعضوين، ولا تقل رتبة الرئيس عن رائد كما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب، ولا يجوز محاكمة أحد ضباط القوات المسلحة أمام محكمة يكون رئيسها أدنى منه مرتبة، حسب نص المادة الثالثة.

وتَصدر قرارات النيابة العامة قطعية لا تقبل أي طريق من طرق الطعن، حسب الفقرة 4 من المادة الرابعة.

وحسب المادة 5- يجوز للمحكمة ألا تتقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة.

وتنص المادة 6- تطبق المحكمة العقوبات المقررة قانوناً ولا تقبل الأحكام التي تصدرها أي طريق من طرق الطعن.

وفي عام 1980 وبمناسبة الأحداث وتحرّك “الطليعة المقاتلة” للإخوان المسلمين، أضافت السلطة موضوع الاضطرابات الداخلية لاختصاص محكمة الميدان العسكري بموجب المرسوم التشريعي رقم 32 تاريخ 1/7/1980

المادة 1- يضاف إلى نهاية الفقرة ب من المادة 2 من المرسوم التشريعي رقم 1.9 تاريخ 17/8/1968 النص التالي :

                   أو (عند حدوث اضطرابات داخلية).

ومع أن محكمة أمن الدولة العليا والمحاكم الميدانية العسكرية طيلة فترة وجودها الذي امتد لأربعين عاما لم تنظر إلا بعدد لا يتجاوز بضعة آلاف، فإن محكمة الإرهاب خلال السنوات الثلاث على وجودها تنظر بعشرات آلاف القضايا، وتنظر محاكم الميدان العسكرية بأكثر من 25000 ملف يحاكم بهم أكثر من أربعين ألف متهم نصفهم موقوف والنصف الآخر هارب وملاحق. وتتراوح التهم بين الانشقاق والخيانة والتجسس والاتصال مع العدو وغيرها من تهم الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي وقانون العقوبات العسكرية.

وتطورت أعمال “محكمة الميدان العسكرية” و”محكمة الإرهاب” خلال السنوات الماضية. ففي عام 2012، كان في المحكمة قاضيا تحقيق فقط أحيل إليهما من قبل النيابة العامة  3602 ملفا من دمشق منها 1427 قضية فيها معتقلون موقوفون، و2175 قضية لمتهمين فارين غير معتقلين. ومعظم هذه القضايا شملت المعارضين السياسيين الذين قسم منهم هرب خارج سوريا. كما أحيل لقاضيي التحقيق 6062 قضية من المحافظات السورية الأخرى. وازدادت الأعداد بصورة كبيرة خلال الأعوام 2014 و2015 ليبلغ العدد الاجمالي للقضايا التي نظر فيها قضاة التحقيق 37756 قضية، مما أدى لتعيين ثلاثة قضاة تحقيق جدد في عام 2013 فأصبح العدد الاجمالي خمسة. وفي النصف الثاني من العام زيد العدد قاضيين إضافيين، فأصبح العدد الاجمالي لقضاة التحقيق سبعة. ومنذ تموز 2015 أزداد عدد قضاة التحقيق بمحكمة الإرهاب إلى عشرة قضاة تحقيق للزيادة الكبيرة في عدد القضايا. وأحيل من قضاة التحقيق إلى محكمة الجنايات 4730 قضية صدر أحكام نهائية بـ 617 تتراوح الأحكام بين السجن لثلاث سنوات حتى الإعدام قضية والباقي ما زالت منظورة أمام المحكمة والجدول التالي يوضح أعداد القضايا أمام المحكمة.

Sans titre

وحيث أنه يمكن لكل قضية أن تكون محل اتهام لشخص أو أكثر ومنهم يشمل ملف الاتهام للعشرات، لذلك لا يمكن تحديد أعداد الموقوفين بدقة لصالح محكمة الإرهاب أو من تم عرض قضيتهم على المحكمة لصعوبة الوصول للأرقام الدقيقة من سجلات المحكمة. ولكن من متابعتنا لعمل المحكمة والمعتقلين فإن الأعداد التقريبية للموقوفين منذ بداية الاحتجاجات عام 2011 تجاوز 300,000 معتقل، ونصفهم فقط عرضت ملفاتهم على محكمة الإرهاب أو المحكمة العسكرية أو المحاكم الميدانية العسكرية وكلها استثنائية، بالإضافة لحوالي 100,000 متهم فارين مطلوبين للاعتقال.

والمتهمون الذين عرض ملفهم أمام محكمة الإرهاب يتجاوز 100,000 مئة ألف متهم منهم أكثر خمسين ألف تم اتهامهم على الغياب والباقي تم توقيفهم ما زال منهم 30,000 موقوفا في سجن “عدرا” أو سجن “صيدنايا” للعسكريين أو سجون باقي المحافظات السورية: حمص، حماه، اللاذقية، السويداء، طرطوس، حلب، و 20,000 تم إطلاق سراحهم من قبل قضاة التحقيق لعدم ثبوت التهم أو بموجب تسويات أو مبادلة أو بسبب مراسيم العفو التي صدرت.

هذا إذا أضفا إليهم أكثر من عشرين ألف معتقل تحاكمهم المحاكم الميدانية العسكرية وحوالي مائة وخمسون ألف معتقل مازالوا مفقودين ومغيبين قسريا لدى مختلف الفروع الأمنية ومراكز الاعتقال غير الرسمية دون عرضهم على المحاكم . وحالات الموت في المعتقلات بسبب التعذيب والظروف اللاإنسانية التي يتعرضون لها بالاعتقال وانعدام كامل لأي شكل من أشكال العناية الطبية والموت جوعا بالمعتقلات والتي نقدرها بأكثر من خمسون ألف معتقل قضوا في المعتقلات بسبب هذه الظروف.

Sans titre1

ثالثا :المحاكم والهيئات الشرعية

ظهر مصطلح “المحاكم الشرعية” في المناطق التي تُنتزع من السلطة السورية، وكان يمكن لها أن تتطور وأن تثبت نفسها أكثر كبديل عن المحاكم التي اعتادها الناس في مؤسسات الدولة في ظل نظام الأسد لولا أن هناك بعض العوائق والأخطاء التي وقع فيها القائمون على تلك المحاكم والتي أدت إلى ضعف الدور المأمول لهذه المحاكم، وتراجع الأداء. ويمكن حصر هذه الأمور في النواحي التالية:

1- اختلاف وتباين في المرجعيات القانونية الجزائية التي اعتمدتها هذه المحاكم. ففي البدايات كان الاعتماد على القانون الجزائي السوري، وبعد تنوع المحاكم وتبعيتها للجهات المسلحة ضاعت المراجع القانونية واعتمدت محاكم كل مجموعة على مبادئ مختلفة وإن كانت بمجملها الآن تدعي الاعتماد على المراجع الجزائية للشرع الاسلامي. وحيث أنه لا يوجد قانون جزائي اسلامي مدوّن ومنظّم وموحّد ودقيق لا للقانون الجزائي ولا لأصول المحاكمات، فكان تطبيق قواعد الشرع الاسلامي كيفياً وبدون أي ضوابط ولا رقابة ويخضع لمزاجية وفهم مُطبِّقِهِ وغالبا كان من يطبقه رجال دين أو طلاب شريعة أو مقاتلون وبعضهم غير متعلم أساسا ولا يوجد للمتعلمين منهم أي خلفية قانونية. فأصبحت “المحاكم” أشبه بمجالس حكم قبلي أو اجتماعي لا تُطبق أمامها أي قواعد أو أصول وتحكم بما يتراءى لها من أحكام.

2- تبعية كثير من المحاكم للفصائل العسكرية، ما أفقدها الاستقلالية المطلوبة في القضاء:  فقد كان النمط التقليدي الذي نشأت فيه المحاكم أن يقوم بإنشائها قادة الفصائل باختيار من يرونه أهلًا للقضاء وتسخير قوة لازمة تابعة للفصيل لتكون في خدمة تنفيذ القرارات الصادرة عن هذه المحكمة بديلًا عن ما يسمى بالشرطة القضائية أو الضابطة العدلية. وإن كانت بعض المحاكم أقل تبعية للفصائل بحيث نشأت مستقلة ثم وقّعت الفصائل الموجودة على الالتزام بقراراتها ودعمها بالقوة اللازمة لتنفيذ هذه القرارات، ومع ذلك فإنها بقيت تفتقد إلى الاستقلالية المطلوبة في القضاء، مما جعل بعض الأحكام الصادرة عن هذه المحاكم تتأثر بتوجه الفصائل الداعمة لها.

3- ضعف القوة التنفيذية للمحاكم:  لا شك أن الحق يحتاج في تطبيقه إلى قوة مناسبة وإلا بقي كلامًا دون تطبيق، ولأن المحاكم نشأت في ظروف غير مثالية من انتظام شؤون الدولة وبسط سيطرة الدولة على كافة مناطقها، فإنها بقيت تفتقر إلى القوة اللازمة لتنفيذ كثير من القرارات خاصة تلك التي تمس بعض العناصر المسلحة أو بعض قادة الكتائب، ما جعل كثيرًا من أحكامها تنصب على الضعفاء أو الأفراد دون الجماعات.

4- قلة الخبرة وافتقاد الكفاءات لدى العاملين في القضاء: كان من نتيجة الثورة السورية أن انحاز عدد من القضاة إلى جانب النظام، وانشق عن هذا النظام عدد من القضاة غير أن أكثرهم غادر إلى خارج البلاد ولم يعمل في المحاكم القائمة، إما لخوف الخطر من الهلاك، أو لعدم القناعة في نجاح العمل ضمن هذه المحاكم، أو للشعور بالإقصاء من قبل بعض القائمين عليها، فيما عمل في هذه المحاكم وأشرف عليها طلابُ العلم الشرعي الذين في معظمهم لم يمارسوا القضاء من قبل، وبعضهم لم يكن قد نال الشهادة الشرعية بعد، وإن كانت بعض المحاكم تطور العمل فيها لاحقًا من خلال الاستعانة بالمحامين والإفادة منهم في تطبيق الإجراءات القانونية في القضاء.

5- كثرة المحاكم وتعددها دون ضرورة:  بعض المحاكم نشأت قريبة من أخواتها، بغية المنافسة ولعدم وجود قوانين ناظمة تمنع هذا التعدد دون ضرورة لذلك. وكان تعددها حالة غير صحية حيث إنها عملت في كثير من الأحيان دون تنسيق فيما بينها، ودون تقيد بالاختصاص المكاني لكل منها، بل تضاربت بعض الأحكام والقضايا من خلال رفعها في محكمتين في آن واحد. [1]

وقد أنشأ كل فصيل محاكمه الخاصة فمجموعات الجيش الحر أنشأت محاكم خاصة بها اعتمدت على قضاة ومحامين وحقوقيين، بينما قامت المجموعات الاسلامية الأخرى بإنشاء المحاكم الشرعية التي اعتمدت على حقوقيين بشكل بسيط وعلى رجال دين ووجهاء محليين، بينما قامت جبهة النصرة والدولة الاسلامية كل منهما بإنشاء هيئاتهم الشرعية معتمدة على قيادات مقاتلة ورجال دين، وقامت القوات الكردية الـ PYD بإنشاء محاكمها الخاصة معتمدة على قيادات مقاتلة وحقوقيين كذلك.

ففي مدينة حلب (شمال سوريا)، أعلن عن تشكيل الهيئة الشرعية في 2012/12/15، باتفاق بين أكبر أربعة ألوية في حلب، هي: لواء التوحيد وأحرار الشام وجبهة النصرة وصقور الشام، ثم ما لبثت أن انضمت إليها غالبية الألوية والفصائل مثل: الفتح وتجمع «فاستقم كما أمرت» ولواء أحرار سوريا ولواء النص ودولة العراق والشام الإسلامية وغيرها لتكون الجهة القضائية الأولى في مدينة حلب.

تشكلت الهيئة الشرعية من مكتب رئاسة تنبثق منه مكاتب عدة، من بينها مكتب التربية والتعليم ومكتب الإفتاء وشؤون المساجد، والمكتب الخدمي والمكتب الطبي والمكتب القضائي ومكتب الحبوب وإدارة المطاحن، ولكل مكتب مهام محددة. وتشرف الهيئة على سجنين يتم نقل مخالفي أحكامها إليهما. لكن سرعان ما انشقت عن الهيئة جبهة النصرة لتشكل هيئة شرعية خاصة بها. ثم تبعها تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي أقدم على الخطوة ذاتها وأسس هيئة شرعية خاصة به. ليصبح نتيجة ذلك، سكان الأحياء «المحررة» في حلب، تحت رحمة فوضى الفتاوى المتضاربة من حيث المرجعيات المختلفة، وباتت المحاكم الشرعية تصدر فتاوى دينية متشددة غريبة عن المجتمع الحلبي، الذي اعتاد الالتزام بالتعاليم الإسلامية بطريقة معتدلة ووسطية بعيدة عن الغلو والتطرف. حيث يلاحظ ازدياد الدور القيادي للجماعات الإسلامية المتشددة، إذ يتسع نفوذ الكثير من الوحدات الإسلامية التي باتت تعتمد على أجهزة شرطة ومجالس إدارية خاصة بها.[2]

وباستثناء محاكم الجيش الحر، وهي كانت الأضعف والأقل، فإن إنشاء كل هذه المحاكم كان بنفس غاية النظام وهي قمع المعرضين للجهة صاحبة المحكمة وفرض أفكارها على المجتمع.

وقد اعتقلت المحاكم والهيئات الشرعية منذ إنشائها حوالي 5000 شخص ونفدت أحكام بالإعدام بأكثر من مائتي معتقل وتنوعت مراكز الاعتقال وشروطه بحسب المناطق واختلاف الهيئات والجهات وتنوع المعتقلين وبشكل عام كانت ظروف وحالات الاعتقال لا تحترم الحدود الدنيا لحقوق المعتقلين الأساسية.

الخلاصة

إن القانون والمحاكم في سوريا قد وجدت منذ الأساس، ومنذ استلام حزب البعث للسلطة في سوريا، ليس كأداة لتحقيق العدالة بالمجتمع وإنما لإرهاب المجتمع وتطويعه وقمع وكتم أي صوت معارض. ويؤكد ذلك وجودُ المحاكم والقوانين الاستثنائية تغيير قانون السلطة القضائية وتطويع مجلس القضاء الأعلى وإنشاء المحاكم الاستثنائية منذ تاريخ استلام البعث للسلطة ولم تكن موجودة سابقاً. وتطورت هذه الآلية مع الوقت في محاولة لتغطية كل الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري، وجاءت المعارضة التي سيطرت على مناطق سورية لتستعمل نفس الآلية التي استخدمها النظام لتثبيت حكمه باستخدام القضاء والمحاكم والقوانين الغامضة التي يفسرها كل على هواه لفرض وتدعيم سيطرتها على تلك المناطق واستخدام عنوان العدالة بشكل مشوه لفرض أفكار غريبة عن المجتمع السوري.

وكان ذلك لتأخر قوى المعارضة في اتخاذ خطوات جدية لترسيخ مؤسسات عدالة حقيقية على الأرض ولعدم وجود أي دعم حقيقي لهذه الخطوة من المجتمع الدولي وعدم وجود قوى فاعلة حقيقية على الأرض تحمي مثل هذه الخطوة. خاصة وأن مثل هذه القوى هي محط استهداف من كافة القوى الأخرى من نظام ومجموعات معارضة أخرى مما أفشل أي جهد بهذا المجال.

وحقيقة الأمر كما يقال (العدل أساسُ الملك) لا يمكن بناء أي سلطة سياسية في سوريا مستقبلا قبل البدء ببناء مؤسسات عدل حقيقية تعتمد مبادئ حقوق الانسان في عملها من حيث الاستقلالية والحيادية والنزاهة، وقبل تحقيق عدالة حقيقية تجاه مرتكبي الجرائم في سوريا ومنتهكي حقوق الانسان ومستخدمي القضاء والعدالة المشوهة لتحقيق مأربهم السياسية.

المحامي أنور البني

المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية

[1] د. عبد المنعم زين الدين ” المحاكم الشرعية بعد الثورة السورية”

[2] BBC تحقيق حول المحاكم الشرعية في سوريا

Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.